- لطف الصراري
عطفا على نقاش شيق مع الأعزاء والأصدقاء؛ توفيق الجند، هشام محمد، دولة الحصباني، وأحمد الفرجي؛ بشأن أطروحة الدكتور فاضل الربيعي الذي شاركت له لقاء مع قناة فرانس 24 في المنشور السابق،
أكرر بأن اطلاعي ليس واسعا بهذا الشأن، كما لست متخصصا في التاريخ. لكن لدي ما أقوله استنادا إلى منطق فاضل الربيعي في هذا اللقاء، وما تقوله دراسة للباحث اليمني فكري آل هير، في ذات الموضوع، وأيضاً إلى ما تشهده المنطقة العربية من اضطرابات وفوضى. وسوف أتجرأ هنا على القول بأن القضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، تمثل البؤرة الأساسية لهذه الاضطرابات. لا أقول هذا تماهيا مع الأطراف المعادية لليهود وإسرائيل، ولا نكاية بالأطراف المنقادة للتطبيع مع الدولة اليهودية التي أقيمت على حساب تشريد الشعب الفلسطيني. لنتحدث بشكل علمي ومنطقي بدون إغفال مبادئ العدالة الإنسانية المكفولة في شرائع كل الأديان وقوانين كل الدول.
مثل هذه الأطروحات التي بدأ كمال صليبي بإشهارها بداية التسعينات تقريبا، وتنتظم الآن كمدرسة ومنهج في إعادة سرد أهم وأخطر قضية في المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي، هذه الأطروحات فيها من المخاتلة وتعسف قراءة التاريخ ما يكفي لعدم الاعتداد بها والتحذير من عواقب الترويج لها. فأولا، نحن في عصر تتوفر فيه التقنية العلمية ومناهج البحث، ويفترض أن تستند كل أطروحة إلى النقوش والمدونات الأثرية قبل أي مصدر آخر. وبالتالي، يفترض أن تتخذ منحى علميا مغايرا لمناهج الإخباريين.
الاعتماد على تشابه أسماء الأماكن ليس منهجا، فاليمن دانت باليهودية، وانتقل إليها الكثير من أفراد الشعب اليهودي، وإذا ما اعتمدنا على نصوص التوراة والإنجيل والقرآن، فقد بدأ ذلك منذ عهد سليمان. وإذا ما استخدمنا مقاربات مماثلة لما استخدمه أصحاب هذه الأطروحات، يمكن أن نستدل بالتسميات التركية للأماكن وتشابهها في معظم البلدان التي احتلتها أو حكمتها تركيا العثمانية، ونستنتج من ذلك أن علاقة اليمن باليهودية قد تكون تجاوزت الديانة إلى التبعية السياسية للمملكة اليهودية.
غير أن الإصرار على ترويج مثل هذه الأطروحات، غير مبرأ، بالنظر إلى راهن المنطقة، من محاولة إسناد الحق اليهودي في جغرافيته الضائعة، لتشمل بلدانا أخرى غير فلسطين. وأي بلد يمكن أن يكون الحلقة الأضعف في سلسلة البلدان المنهارة في المنطقة، أكثر من اليمن!
انظروا كيف يتعامل العالم مع الحرب التي أكلت أخضرنا ويابسنا منذ خمس سنوات. ففي النهاية، اليمن ليس لديها باحثين على درجة عالية من الهمة والموضوعية والثقة والدقة العلمية، لمناقشة أية أفكار أو نظريات يصدرها الآخرون عنها وعن تاريخها. وإن وجدوا مثل هؤلاء الباحثين تقمعهم السلطات اليمنية نفسها حتى توصلهم إلى مرحلة التبلد، أو تدير ظهرها لهم حتى ينال منهم اليأس والانهزام النفسي والمعيشي، وتستحوذ عليهم فكرة اللاجدوى من أي جهد يقومون به. نفس الأمر ينطبق على المثقفين، الأدباء الصحفيين، النشطاء، وعلى تعامل السلطات اليمنية مع أنشطتهم وأفكارهم؛ إما القمع أو التدجين أو التقليل من أهمية ما يفعلونه، خاصة إذا ما تعارض ذلك مع مصالح النخب الحاكمة.
بالعودة إلى موضوع اليمن والجغرافيا التوراتية، فقد تحمس الباحث اليمني فكري آل هير، وأنجز دراسة في العام 2018. تناول آل هير أطروحات صليبي والربيعي المثيرة للجدل، والتي صارت تثير الارتياب أيضا، مع تصاعد الأحداث الراهنة في المنطقة، سيما ما يتعلق بالسعي الحثيث لإسرائيل في توسيع نفوذها. قال آل هير إنه حاول فتح نقاش مع ثمانية من أبرز من تبنى أطروحة اليمن كجغرافيا توراتية، لكن أفضل رد حصل عليه من أحدهم كان إحالته على ما احتوته كتبهم. وأكد الباحث اليمني المتطلع للحقيقة، أن هؤلاء الأساتذة والمؤرخون أغلقوا ياب النقاش معه، ووصل الأمر بهم إلى عدم الرد عليه.
شخصيا، لا أقول بأن دراسة آل هير أو أن وجهات النظر المشككة في أطروحات صليبي والربيعي، تحتكر الحقيقة التاريخية. لكن يفترض ألا نقبل بهذه الأطروحات على علاتها. فكونها مغايرة للسائد لا يعني التسليم بصحتها، ناهيك عن الاحتفاء بها. تاريخ العالم مليء بالمشتركات الإنسانية والدينية والثقافية، حتى على مستوى الأمثال والحكم والأساطير. لكن أن يتم بناء سياسات تدعي الحق بالجغرافيا، فقط بموجب تشابه هذه المشتركات، فهذا أمر يجدر مناقشته بتمحيص شديد. ذلك أن الوظيفة الطبيعية للمشتركات الإنسانية، من ديانات وثقافات وأساطير وفنون، تتمثل في تعزيز الاستقرار والتعايش بين البشر، لا أن تتحول لأيقونات صراع وادعاء حقوق ضائعة في مجاهل التاريخ.
على ذلك، يجدر التنبه إلى ما تنطوي عليه مقاربات الجغرافيا التوراتية مع أي بلد. صحيح أن تاريخ المنطقة بحاجة إلى إعادة صياغة، لكن يفترض أن يعتمد ذلك على النقوش والمدونات الأثرية، وعلى نصوص الكتب المقدسة الثلاثة. وبشأن تدوينات الإخباريين، فلا بد من إخضاعها للمناهج العلمية حتى يتبين أيها أكثر دقة وموضوعية، وأيها كان يكتب بغرض التزلف على حساب تاريخ وحضارات الأمم المنهزمة في دورات الحروب التاريخية.
ختاما، ربما يجدر بنا تذكر أن فلسطين كانت كبش الفداء الذي ضحى به العرب والمسلمون عندما توافق المجتمع الدولي الاستعماري على منح اليهود جغرافيا كافية لإقامة دولتهم. وقد سبق ذلك ما يقارب أربعمائة سنة من العمل الاستشراقي الدؤوب من أجل ترسيخ الفهم الأوروبي لجغرافيا ومجتمعات الشرق؛ ليس في أوروبا فقط، بل لدى المجتمعات العربية أيضا. وعند قراءة كتب المستشرقين، تجد أن معظمهم كان لديهم خلفية توراتية على مستوى المناطق التي زاروها والخرائط التي رسموها، كما لو أنهم يقتفون أثر أسلافهم. وعندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته للسلام في الشرق الأوسط تحت مسمى “صفقة القرن”، استهل خطابه بالقول: اليوم لدينا خبر جيد فيما يخص الشرق. وفي العام 2014، قرأت حوارا صحفيا مع قائد عسكري مصري متقاعد (لا يحضرني اسمه الآن)، قال فيه إن “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، الذي بدأ منذ الثمانينات، يشمل توسيع جغرافيا إسرائيل على حساب أراضي الدول المجاورة، خاصة مصر. فصحراء سيناء يعول عليها أن تحل مشكلة الكثافة السكانية للفلسطينيين الذين سيتم ضم مناطقهم لإسرائيل.
بالتالي، يتوجب علينا إخضاع أي أطروحة استشراقية للمنهج العلمي وواقع المجتمعات الفعلي. وبالمثل، آخضاع الفرضيات التاريخية للمنهج العلمي وللنقوش الأثرية. على أن “العداء المفرط للتاريخ” لدى الأطراف المتحاربة، يجعل النقوش والآثار عرضة للتدمير والعبث؛ كل سلطة جديدة تطمس أثر سابقاتها، والنتيجة؛ نسف التراكم التاريخي، وإفساح المجال للتكهنات وفخاخ التأويل.