- هدى جعفر
تسعة أفلام، وثمانية مخرجين ومخرجة واحدة، نسخة الـ”أوسكار” لعام 2020، ستكون مثار للجدل، كالعادة، ربما بدءًا من قائمة الطعام النباتيّة بنسبة شبه تامّة، ونهايةً بخطاب واكين فِينِكس الهجائي المُتوقّع عن عنصرية لجنة الـ”أوسكار” وافتقار معاييرها للتعددية العِرقية.
مُستبعدةً، كالعادة، عشرات الأفلام الجيّدة التي جانبها الحظ، وقع اختيار لجنة الـ”أوسكار” على تسعة أفلام، منها ستة تدور أحداثها بالكامل في الماضي من الثمانينيات وما قبل ذلك، وفيلمان في الحرب العالمية الأولى والثانية، وستة أفلام يتصدّر بطولتها المُطلقة ذكور، وفيلمان طافحان بالتِستوستيرون، بالإضافة إلى الاسمين اللامعيْن: سكورسيزي وتارانتينو. باختصار؛ تشكيلة “أوسكارية” كما ألفتها الجماهير منذ زمن طويل، لولا وجود الكوري الجنوبيّ بونغ جون هو، والمُخرجة غرِتا غِروِغ التي تُنافس حبيبها نوا بومباك في نفس الفئة، وإن كان من المُستبعد أن يعود أحدُهما بالأوسكار إلى البيت!
تربّع في أعلى هذه القائمة “التُساعية” الفيلم الكوري التُحفة “باراسايت”، و استقرّ في آخرها “حدث ذات مرّة في هوليوود” في وصول غير مُستحق لكوِنتِن تارانتينو الذي أفلتت منه خيوط القصّة في فيلمه هذا.
تسعة أفلام تسلسلت بفروقٍ واضحة في كلّ شيء، واتّفقت في نيْلِها إعجاب لجنة الـ”أوسكار”، فأدخلتها الثانيةُ التاريخَ من أكثر أبوابه إمتاعًا.
- “الإيرلندي”: كُل النّسخ حاضرة!
أبطال سكورسيزي دائمًا مجانين، مهووسون بالإنجاز، عازمون على الوصول إلى مُبتغاهم رغم الأسنّة التي تحف الطريق؛ من روبرت بَبكِن في “ملك الكوميديا” الذي انتزع “جوكر” تود فيليبس نصيبًا وافرًا من جنونِه، وحتى الأب رودريغز الذي لم يُثنِه توحش اليابانيين عن أي شيء في “سايلنس”، ومن ماكس كايدي الذي يتقلّب على جمره في “كايب فير” حتى الـ”دينامو” جوردَن بِلفورت في “ذئب وول ستريت”، ومن الطفل الجسور “هيوغو” حتى القاتل، معبود الجماهير، ترافِس بِكِل في “تاكسي درايفِر”!
فهل يختلف فرانك شيران (روبرت دنيرو) بطل “الإيرلندي” عنهم؟ بالتأكيد لا.
هل يُقدّم سكورسيزي شيئًا مغايرًا تمامًا هذه المرة؟ لا. وهذا بالضبط أجمل ما في “الإيرلندي”!.
إنّها ذات الجعبة التي يُخرج منها سهامَه فلا يُخطئ، ذات القُبّعة التي تتدافع منها أرانبه المدهشة.
في ساعات “الإيرلندي” الأكثر من ثلاث، نتتبع القصة المأخوذة من أحداث حقيقية عن فرانك شيران الذي بدأ كسائق شاحنة وانتهى به الأمر قابعًا في دار رعاية المسنّين يقصّ فيها عن حياته الحافلة، وعلاقته برئيس المافيا الإيطالية راسل بوفالينو (جون بيشي)، ومقتل النقابيّ جيمي هوفّا (آل باتشينو)، وما بين هذا وذاك من تفاصيل داكنة، ممتلئة بالهرب، والرصاص، والعهود، ونكث العهود، والبيوت التي لا تكتفي من الدهان!
إنّ سكورسيزي لا يُكرر نفسه على مستوى الموضوع فقط، بل على مستوى الصورة أيضًا، هناك مثلًا المشهد الذي يُحطم فيه شيران كفّ البقَال، لقد شاهدنا موتيفة مهاجمة/إدماء كفّ اليد في “عصابات نيويورك”، و”كازينو”، وفي مشاهد الصلب في “الإغواء الأخير للمسيح” حيث تنغرز المسامير في أيدي الأبرياء دون رأفة.
لا يُمكن تجاهل الحنين الجارف الذي يمنحه “الإيرلندي” لزمن التسعينيات وفيلم سكورسيزي البديع “غودفيلاس”، وما قبله وما بعده من مفرداتٍ مألوفة لعب بها مخرجنا المحبوب بمهارة فائقة الإمتاع دون كلل.
في جُملتيْن؛ “الإيرلندي” كُل ما يُحبّه سكورسيزي، وكُل ما نحبه نحنُ في سكورسيزي. - “قِصّة زواج”: عنق الزجاجة أفضل من قاعها!
الطلاق الذي يحدث لمئات الآلاف كل يوم يلتقطه نوا بومباك في فيلمِه “قِصّة زواج” ويقرر أن يشرّحه، وأن يدفعنا لمعاينته تحت مِجْهره المُحاصِر، فيغترف تعاطف الجماهير بكلتا يديه.
يحكي الفيلم عن نيكول وتشارلي (سكارلِت جوهانسن وآدم درايفر)؛ عاشقان، ثم زوجان، ثم مُنفصلان. هكذا ببساطة!
نيكول ممثلة كانت تنتظرها مسيرة مهنية حافلة في لوس أنجلوس، لولا زواجها من تشارلي وانتقالها معه إلى نيويورك، لتصبح ممثلة في فرقته المسرحيّة. بعد سنوات تُعيد النظر في حياتِها وكيف انزوت داخل عالم تشارلي المسرحيّ الطموح، فتقرّر الطلاق، ومن هنا يبدأ سيلٌ من المشاعر، والأسئلة المُلحّة، وحُرقة النهايات.
كان من السهل استحضار فيلم “كريمر ضد كريمر” (1979) من بطولة داستِن هوفمان وميريل ستريب. وقد بدا التشابه بين العملين في أكثر من ملمح؛ التوتر العام، وحضانة الابن، وخطط المحامين للفتك بالطرف الآخر. في الفيلم “السبعيناتي” تقف ميريل ستريب داخل المصعد يواجهها داستِن هوفمان غير مصدّق لما قالته لتوّها فينغلق باب المصعد دونهما، إنّها الدلالة على استحالة العودة، في “قصة زواج” يتكرر المشهد ولكن “العزول” هنا باب المنزل، الذي يُغلقانه “سويًا” في وجه بعضهما، وهو مشهد، رغم قصره، مُقبض للغاية.
أمّا المشهد الذي حجز لنفسه مكانًا في أيّ جدل قادم حول الجندر والنسويّة في السينما الأمريكية الحديثة كان بين المحامية نورا (لورا دِرن) ونيكول، وتحدّثت فيه الأولى فيما يُشبه الخطبة المُقتضبة عن ضغط المجتمع على الأمهات، وكيف أنّ السيدة العذراء ولدت ابنها بمفردِها في غيابِ “الأب” الذي لم يُكلف نفسه عناء الإخصاب!.
يضغط بومباك على أبطالِه حتى الرمق الأخير، وينقّلهم بين فِخاخ الذاكرة، ولوم الذات، و”ماذا لو” كريه المذاق، في سيناريو ممتع، وذكي، وحسّاس.
إنّ الطلاق رغم الحُب، أكثر صعوبة من الاستمرار في الزواج دون وِفاق، هذه الحقيقة/كرة الصوف التي غزل منها بومباك قصّته المؤثرة. ولكن لماذا اختار اسم “قِصّة زواج” وليس ” قِصّة طلاق” أو ” قِصّة حُبّ”؟ ربّما من سيعرف الإجابة، هو أكثر من سيبتهج إذا حاز هذا الفيلم على الـ”أوسكار”. - “باراسايت”: الجوارب ليست في أماكنِها!
يبدأ فيلم المخرج بونغ جون هو، والذي يعني طُفيليّ، بجوارب معلّقة على منشر غسيل بلاستيكي صغير الحجم يطل على النافذة صباحًا، وينتهي الفيلم بها تظلل أحد أبطاله مساءً، جوارب تواجه النافذة، تعلو ساكني البيت، كأنها أقدام مُعلّقة تدلّت رؤوس أصحابها إلى الأسفل، حياة تمشي رأسًا على عقب.
يبدا فيلم “أوكجا” أيضًا لنفس المخرج بمشهد لحذائيْ الثرية المهووسة لوسي مِراندو (تِلدا سوِنتن) ناصعي البياض.
الأقدام ومتعلّقاتها تعني الأساس، تشير أيضًا إلى ما يقبع في الأسفل، هناك الكثير من “أعلى” و”أسفل”، و”فوق” و”تحت” في أفلام بونغ جون هو، بكل التنويعات الممكنة، عالمان لا يختلطان وإن حدث فالنتيجة ليست أقل من مجزرة!
تعيش أسرة السيد كاي-تايك في منزل “الجوارب المعلّقة” تلك، أربعة أفراد عاطلون عن العمل، تتغير حياتهم حينما يزورهم صديقُ ابنهم ويمنحه فرصة للعمل كمدرس خصوصي في أحد البيوت الفارهة، التي تقبع فيها الجوارب في أماكنها الصحيحة، ومن هنا تتسلل الأسرة واحدًا تلو الآخر إلى البيت الجميل، وتحاول التمتع بنعائمه متعايشة مع الأسرة الثرية التي لم تشك بشيء سوى بالرائحة المنبعثة من الدخلاء خفيفي الظل. في النصف الأول من الفيلم لا يُمكن إلا أن تُعجب بذكاء تلك العائلة الفقيرة، وقوتهم التي تقترب من التبجح، ثم تتسلسل الأحداث ككرة الثلج بعد رنّة جرس تدقها مدبّرة المنزل السابقة باحثة عن آخر شيء يخطر على البال.
يقع الفيلم ضمن ما يُمكن أن نطلق عليه كـ”جانر” سينمائي فرعي بـ”غزو البيوت”؛ حين يسكن الغرباء بيت أسرة كانت سعيدة قبل هذا الحدث، بالحيلة أو بالاقتحام المباشر، يتشابه “باراسايت” مع فيلم الأمريكيّ جوردان بيل “نحنُ” الصادر في 2019، الذي خرج خالي الوفاض، على غير المتوقع، من ترشيحات الـ”أوسكار”، وكان يحكي أيضًا عن الخلاف الطبقي، وما تنهشه الحياة الأمريكية النهمة من حياة الأفراد.
بونغ جون هو يعرف أين يحقن إبرته بالضبط، وكيف تصل الجُرعة إلى هدفها مباشرة، في أكثر من ساعتين بقليل، يغمرنا بونغ جون هو بالضحك، والخوف، والحزن، والتأمل، في النهاية المُظلمة للعائلتين، و”الرائحة” المتخفيّة تحت الجلد؛ والكرب المُباغت، والخطط التي لا تعمل أبدًا.
يذهب بونغ جون هو وراء الخلاف الطبقي، يذهب أعمق، يذهب بعيدًا، حيث جوهر المخاوف الإنسانية وإحباطها، بسيناريو مُذهل، متدفّق، وخيال جميل ومؤذٍ.
لنعيد التأمل في مصير العائلتين ونتساءل: يا ترى من كان الطفيليّ على حياة الآخر!
“نساء صغيرات”: فيلم أصغر!
رأيت المُخرجة غرتا غِروِغ لأول مرة في فيلم “بيت الشيطان” الذي شاركت فيه بدور صديقة البطلة التي تتناول معها البيتزا والصودا ولا تكف عن الثرثرة، ثم يُفجر القاتل المختل رأسها، بعدة عدة مشاهد، داخل السيارة فيتناثر مخها في كل مكان.
بعد أقل من عشرة سنوات كانت غِرتا غِروِغ تجلس في مسرح دولبي في احتفال الـ”أوسكار” 2018 باعتبارها المرأة الوحيدة المُتنافسة مع زملائها في فئات: أفضل مخرج/ة وأفضل فيلم، وأفضل سيناريو أصلي، حيث شاركت بفيلمها “ليدي بيرد” الذي قدّمت فيه غِروِغ الطرازَ المعروف للمراهقة الأمريكية التي تعيش خلافًا صارخًا مع والدتها، وتقضي يومها في التفكير بالحب والجنس، ومحاولة البحث عن فتاها الذي سيفتتحان جسديهما معًا.
وهذا العام تدخل غِروِغ بفيلمها التالي “نساء صغيرات” إلى الترشيحات النهائية لجائزة أفضل فيلم، ولكن هذه المرة تقف ضد، صديقها ووالد ابنها، نوا بومباك؛ إنّها قصة قد تفضلها لجنة الـ”أوسكار” على عشرة أفلام جيّدة، ويحضر هنا وصول الزوجين السابقين كاثرِن بِغِلو وجيمس كاميرُن إلى نهائيات الـ”أوسكار” التي فازت بها الأولى عن فئتي أفضل مخرج وأفضل فيلم.
الفيلم مُقتبس عن رواية ساحقة الشهرة بنفس الاسم للكاتبة لويسا ماي ألكُت، تحكي فيها معاناة أربع فتيات وأمهنّ أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وقد تم تحويل الرواية مرات كثيرة إلى أعمال فنيّة، كما عُرض منها نسخة كرتونية مدبلجة إلى العربية كمسلسل في التسعينيات.
على مستوى الصورة فإنّ غِروِغ موهوبة، وبرعت في اختيار مواقع التصوير، وحركة البطلات والأبطال داخل المساحات المحدودة والواسعة على السواء، لكن الإشكالية في “نساء صغيرات” أنّه فشل في تحقيق ما تُريد مُخرجته أن يكون أهم ما فيه، فهذه المخرجة الشابّة، كغيرها من صانعي الأفلام، لم تستطِع أن ترى أبعد من مترين فيما يخص قضايا النساء في السينما.
إنّ “تجميع” الممثلات في فيلم واحد لا يعني بالضرورة ترجيح كفّة النساء في الصناعة السينمائية على مستوى القضية أو الدراما، ولا يوصلهنّ لأي محطّة، إلا بقدر ما تُناصر أفلام الـ “بلاكسبلويتيشِن/الاستغلال الأسود” السبعينية “قضايا” السود.
يدور “نساء صغيرات” في مجملِه، كما في فيلم غِروِغ السابق، عن الرومانسية، والزواج، والرجال الوسيمين، مع تقديم بعض الرسائل التي نثرتها غِروِغ هنا وهناك، ولقّنتها بالملعقة عن طموح النساء والصعوبات اللاتي تعترضهن، في أسلوب تقريريّ مُباشر دون أي محاولات في التعمّق، أو الإتيان بالجديد!
“نساء صغيرات” فيلم عادي، يُمكن متابعته في أمسيات الضجر عندما تُريد مشاهدة نساء جميلات في ملابس عتيقة مُلفتة.
تقول البطلة جو (سيرشا رونَن) في أحد مشاهد الفيلم لصديقها (تيمِثي شالميه) بأنّها سئمت من الفكرة التي تقول بأنّ المرأة لا يُناسبها إلا الحب، وهذه الملحوظة بالضبط هي ما يجب على غرِتا غِروِغ أن تستوعبها جيدًا!.