لاشيء يجري حسب مشيئة الصدفة..
رواية قصيرة ..
- عبدالله فيصل
في حي الزمالك ،القاهرة..
.مساكن جديدة، مشيدة من خام السحر، والرفاه الإجتماعي .. وخلاصة الأحلام المفعمة بالجاذبية والخيال .. تتجه إصبع رقيقة ومتوترة في فيلا لها فناءً يشكل لوحة فانجوخية .. بديعة .. لامعة بين الضوء الأبيض تقترب الإصبع من المفتاح الكهربائي .. ببطء تضغط على الزر ويسقط النور في قعر الظلام للأبد .. يختبئ صاحب الإصبع بعدها تحت ملاءة خفيفة ويقوس جسده كمن يريد احتضان النوم في أبهى صورة لاستقباله .. ويرفض أن يستجيب الأخير ..لكن من يعلم لربما استجاب بعدها معتذراً عن كل شيء بدر منه سابقاً.. تظل الصورة هكذا من بعيد لمجرد سلويت جسد وحيد، ورشيق يتصارع مع نفسه في غرفة واحدة مغلقة..
في حي صنعاء القديمة ..
خولة فتاة لاتزال في الثالثة والعشرين من عمرها .. ثلاثية الأبعاد إن أمكن القول فهي تمتلك قامة طويلة وجسداً شهوانياً نحيف الخصر.. وتضاريس مغرية وشفافة ، بحيث تستطيع أن ترى حمرة دمها تسلك سكة عروقها مثل القطارات .. يزينها الوقار والحماسة المتدنية للفتيات الناضجات ..
مدى العذوبة في لهجتها الصنعانية القديمة تروي عطاشى الكلام .. لجانب منظرها المشرق النير والذي يتمتع به بعض أهل تلك المدينة خاصة.. لكن صديقتنا خولة تتفرد بذكاء خارق وحسن التصرف ، وكلاسيكية التفكير ..لكونها رهيفة الطابع أيضاً وشخصيتها ليست أقل من أي فتاة لها جمال متوسط ومرغوب .. في المنصات الفنية العالمية..
خولة تقوم إلى عملها يومياً في مدرسة خاصة قريبة بعدما اكملت الثانوية قبل فترة قليلة .. كنتيجة حربية بحته وأوضاع مادية سيئة كفت خولة عن متابعة دراستها والتحاقها بالجامعة ..لها أم مسنة لم تعد تجادل بشيء ولا تنطق إلا بأسماء الأدوية ، تفوح بالمرض وتزأر بالأنين .. آخر مرة قاموا باسعافها إلى المستشفى كتب الأطباء لها رقوداً مطولاً فيه .. المسكينة كانت لاتفتأ عن ذكر خولة على لسانها أبدا .. وخولة في البيت تكنس القاع مع الدموع راسمة على أرضيته خطوطاً مائية مجرورة بالحزن والأسى .. كانت سحنة وجهها تتلألأ باللمعان مثل البرق.. وتتراقص مثل انعكاس القمر على سطح المحيط .
في حي التواهي
تبقى فتحية التي لم يمرعلى زواجهما هي وأسعد عاما واحداً مثل كل الليالي الصاخبة بالتوتر ، تتصبب عرقاً ولهفة.. منتظرة عودة زوجها الأسمر.. وأسعد كما لا تعلمون بالطبع .. يعمل في ورشة لتصليح الدراجات النارية.. وعازفاً للعود بشكل احترافي رهيب ، وموهبة ترقى لتصليح الكآبه في أوساط الشباب اليائسين جميعاً ..
أسعد هذا الوقت يعزف في ديوان كبير في خور مكسر .. له جمهوره المحبين هناك .. واصدقائة المتشوقين دوماً لسماع أداءه الخرافي في العزف والغناء .. فتحية تجلس وتتسطح السرير في ثانية .. بدأ الهلع يتهيأ لها كروج أحمر، تنهض إلى التسريحة القريبة.. وتمسح على شفتيها الرائعتان وتمتص حمرتهما .. لكن القلق يحيط بها مثل دولايب غرفة النوم الجديدة.. تعود بسرعة لتتربع عرشها محتضنة وسادة في حجرها .. وأسعد لازال يعزف في ذلك الديوان محتضناً العود في حجرة يغني قصيدة كريم العراقي..
ذهبت مع الريح فأصحو يا مدللها .. كأس هي الان بيدي عاشق ثاني.
في حي الزمالك..
هند طالبة في جامعة القاهرة.. تتميز عن زميلاتها الأخريات بشحوبة الوجه والذعر الدائم على ملامحها .. يعشقها الأرق مثل عشقها للوجبات السريعة وأشعار الكبار المعاصرين مثل فاروق جويدة ، ومحمود درويش .. تولد هذا العشق الصغير من محبة فائقة وكبيرة .. كانت تدور رحاها في حي الموشكي تعز .. التي قضت الحرب حينها على الحي والحياة بأكملها .. قبل انتقالها للعيش في الحي الارستقراطي ..كان يثير فزع هند كلام أخيها الكبير والذي كان يدير وقتها أملاك وعقارات والديهما الراحل .. كان صبري قد ابتدأ فعلا في استخراج الأوراق الضرورية والتجهيزات اللازمة للسفر إلى مصر.. والعزم على إستئناف أعماله لاحقاً في وضع هادئ ومستقر ..
وليد ابن جيرانها الذي أكمل دراسته الثانوية مع هند في العام نفسه.. وجدته يهاتفها في ليلة ملأتها صرخات مكبوتة وأحزان مشرعة لقتل السعادة اين ما وجدت .. بأنه هو الآخر سيبتعث نفسه إلى لندن تلببة لاقتراح والده التاجر .. لايجب أن أبقى هنا دونك .. الحب ياعزيزتي غير مؤهل للموت تحت السلاح..لاسيما إن كان تحت السلاح وبواسطة الفراق المشبع بالذكريات المهزومة والمحبطة ..
في ذلك المنزل الارستقراطي الهادئ في الزمالك وفي غرفة مضيئة تأخذ هند ادويتها للقولون قبل النوم كالعادة .. وهي ترثي أمها التي قضت ايامها مبكراً.. وفي صمت تسبر أغوار حدائق لندن وشوارعها بمخيلتها بحثاً عن بقايا من وليد ..الذي كلف الأخير نفسه بنسيان كل شيء ..تشكو هند إلى أمها الوجع الخانق في هذا الحي الفسيح.. والكثير من الآلام العضوية أسفل البطن .. وصراعها الدائم مع الأرق والحنين .. تقوم إلى المفتاح الكهربائي مثل كل مرة وتطفئه بالإصبع ذاتها..ويعود السلويت مع حربه التي لا تنتهي .. لكن هذه المرة هند تحسم معركتها الأخيرة
ولا تستيقظ أبداً.. تذهب تلك البشرة الشاحبة لتشكو أمها شخصياً..
..وأسعد لازال يعزف في الديوان الكبير .. كان قد انتقل إلى قصيدة أخرى هذه المرة للأخطل الصغير… أتت هند تشكو أمها..فسبحان من جمع النيرين..
في حي صنعاء القديمة..
لخولة أخ واحد فقط يعمل على نسيان همومه قدر المستطاع وعلى باص قديم متهالك حتى ساعة متأخرة من الليل.. والدها الذي تقاعد عن العمل منذ فترة طويلة كمدرس هو الآخر .. يفتش لها بين طيات القدر والسماء .. مستجدياً لها زوج حنون ورئيف ..يقول لنفسه في صالة المنزل وهو ممتد على كنبة بالية صباحاً .. حان الأوان .. حان الأوان .. وهو يرمق اقدام خولة تخطو للخارج .. كان قد أخبره أحمد ليلتها بأنه وجد لها عريساً وإقناعها واجب وضروري جداً..
لا غريب.. كل الآباء والإخوة الكبار يفكرون بالشيء ذاته.. ينتابهم الهلع عندما تكون الأنثى في قمة عنفوانها الشبابي .. وتكون هذه هي ابنتهم أو أختهم .. يستيقظ أحمد ويجد والده في الصالة الضيقة..يخبره مرة أخرى بالتفاصيل عن صديقه التابع لجماعة أنصار الله..والذي يرغب في أن يتزوج قريباً وقد قص عليه كل شيء يمتلكه من السلاح الذي ورثه عن والده وحتى آخر سيجارة متبقية لديه .. ثم أردف قائلاُ
هو إنسان طيب ياوالدي … ما الغريب في الموضوع إن كان يتبع جماعة مقاتلة أو طائفية … الجميع ممن يشبهونه يقاتلون لكسب لقمة العيش لا أكثر..
خولة تعود فجأة إلى المنزل.. كانت قد نسيت أحد كتبها الهامة ..
فرصة أباها الوحيدة أن يخبرها بالأمر الآن ..ويجعل لها من الوقت الكثير في المدرسة لتفكر .. خولة تستمع من أخيها قصص عن الفتيات الأخريات ..وكيف تلاقي الواحدة منهن الصعوبات في إيجاد زوج جيد وقادر على تحمل المسئولية في هكذا أوضاع بائسة .. الأب من جانبه أيضاً يقص عليها زيجات الماضي .. والحب الذي يأتي بعد الزواج دائماً وترافقه المودة والألفة..
خولة تتخيل حالاً الجبهة أمامها .. والحرب الدائرة في المنتصف ..ربما أنها تكره احتضان شخص تهدد حياته رصاصة ستطلق في أي وقت بغتة وتجعل منها أرملة تتعقبها الشفقة لاحقاً .. بالإضافة لكونه لا يملك من مقومات الحياة سوى ما سيدفعه لها مهراً .. ولا سيما إن كان من تلك الجماعة التي تكن لها من الحقد الذي له اسبابه المعروفة والمعرفية الكثير والكثير.. بصمت ناجم عن اضطراب وقلق ذهبت خولة إلى المدرسة .. لكنها لم تعد إلى الآن .. كانت قد ذهبت مع الريح .. في حادثة دهس مروعة كانت خلاله شاردة الذهن تماماً ..
وأسعد صديقنا الفنان لازال يعزف ليلتها .. ذهبت مع الريح فاصحو يا مدللها .. كأس هي الآن بيدي عاشق ثاني ..
في حي التواهي ..
فتحية تعد العشاء لزوجها .. قامت بتنظيف المجلس والغرف عدة مرات وهي متشتتة الفكر، وفزعة بشكل كبير.. القلق يداهم اعماقها ويستثير غضب جنينها الذي بدأ يركل بطنها في اسبوعه العشرين ..
تأخر أسعد اليوم قالتها فتحية بصوت منخفض ومحتار ..تذهب لأخذ هاتفها من على رف التسريحة .. تطلب رقم أسعد.. الذي يسعد الآن بدوره شباب يقضون ألطف أوقاتهم .. كان أسعد قد أغلق هاتفه في بداية الجلسة تحسباً لأي أمرٍ يخرجه من بين المتيمين بصوته أو يسبب له الإرتباك في الغناء .. وقد طُلب منه كأغنية أخيرة يقوم بتأديتها قبل خروجه.. “كنت اعتقد أن قلبي في ضلوعي مؤمن” ..لحمود السمة الفنان
..و الفن بشكل عام كان في شمال البلد أو جنوبه .. فهو لايتحيز لطرف عن طرف آخر .. يبقى مناصريه هم متذوقيه وشيعته في أي بقعة ..
أسعد ينتهي منها سريعاً ويودع أصحابه ومحبيه في ذلك الديوان .. ويهيم بدراجته النارية على خط البحر عائداً إلى بيته .. لكن أسعد لم يعد الى الآن ..كان هناك من قد اوشى به لجماعة متطرفة بأنه يفسد الشباب وينشر افكاراً هادمة للتقاليد وتعاليم الدين .. قريباً من منزله .. فتحية تسمع صوت صرخة مدوية.. أنستها تغيير ملابسها وتغطية شعرها .. هرعت إلى الباب الذي يؤدي للخارج وجدت أسعد على بعد مترات يتلوَّي بين التراب .. ومن قبلها جعلتها صرختين مدويتين .. وقبلة منها أخيرة مزجت الروج على شفتيها مع دم زوجها الأحمر الذي يسيل بين أصابعها.. كانت قد اخترقت حنجرته رصاصة من بعيد .. جعلت روحه تصعد على سلم موسيقي نحو السماء .. وتنزف جثته نوتات موسيقية حزينة.. تكاد أن تتتوضح بينها هند وخولة بدقة متناهية .. يتساقطن من رقبته كاالقطرات الأخيرة من المطر الغزير..إن لم يكن الظلام طبعاً قد غطى بسوداويته على حي التواهي بأكمله .. وأحاط أهل الحي بأسعد وزوجته فتحية التي فُتحت لها ولجنينها أبواب الجحيم .
هكذا عندما تعزف الحرب مقطوعاتها الخاصة .. يتساقط الراقصين بالألم على المسرح الحي جثثاً هامدة .. ويبتلع الظلام النور في ثانية .