- طارق السكري
حدّثني صديقي من قريتي المَسَانح وكنا في سَمَرِ قاتْ فقال :
( ذهبتْ بي الأيام بعيدا عن بلاد العرب .. ارتحلتُ الرّياح وركبت الأمواج واتجهت نحو الشرق فوصلتُ بلدةً نائية مسوَّرةً بالنخيل .. معبّدةً برمال الشطآن الناعمة ، وفيها أشجارُ فواكهٍ غريبةٍ لم ترَ عيني مثلها في حياتي .. فواكهَ مكوّرةٍ كظهر الجنادب لها أنياب وأسنان ، ثمرتها تشبه خِصية البعير ! يأكلها الناس فتضيء وجوههم وتطول أعناقهم ، أكلت منها ذات يومٍ على استحياء من أن يراني واحد من أصحاب قريتي بعد أن انتحيتُ جانبا من الطريق ، فوجدتُ لها طعما لذيذا .. وإذا بي أشعر برغبةٍ عارمةٍ بالوثب وتسلق الجدران !
ووجدتُ في البلدةِ مسلمين على الفطرة ، لكنهم فطس الأنوف ، قصار القامة ، يهذرمون بكلام غير مفهوم ، يعيشون على الكفاف بيد أن العجب كل العجب فيما يملكون من مساجد في منتهى البذخ ، وجوامع في قمة الترف ! فاستغربت !
ثم إني ياصديقي ذاتَ جمعةٍ والمطر سكّاب، وقد أخذني الشوق للأحباب ، شدَّني إلى مسجدٍ عظيمْ ، صوتٌ مألوفٌ كأني أعرفه من قديمْ ! قلتُ في نفسي : سُحْنة هذا الخطيب ليست غريبة عني ! فدخلتُ المسجد ، حتى إذا دنوتُ منه ، حدّقتُ وأطلتُ التحديق ! وإذا بي أقول بصوتٍ خافتْ : رَفَسَتني بقرُ الهندوس إن لم يكن هو ! إنه هو ابنُ سُكّرة ! أجل أجل إنه هو ! هل أكذّبُ عيني ياعالم ؟ وهل تخفى عني ألاعيبه وحيله ؟ ولكن ما شأنُهُ وشأنُ الخطبة والخطابة ؟ وما هو إلا من أهل المجانة والصبابة ؟! لعلّ الله هداه ! أمعقول ؟ وما بين تكذيب في نفسي وتصديقْ ، قرّرتُ أن أقعد لأستمع .. فاستمعتُ إليه كصديقْ ، وإذا به يصيح :
اللهمَّ إنها الجمعةُ الجامعة ، والنّفحة العليَّة ، والرّوضة اليانعة ، والنّسمةُ الزّكيّة .
أطلّت ياربُّ علينا في أوّلِ العامْ ، كما تطلّ البدورُ الزاهياتُ على الأنامْ . تستشرف أنوراها القلوبْ ، كما يستشرف الصَّبُّ رياحَ الجنوبْ .. وداعةٌ ورضى ، وسكينة وهدى
فيها لآدم أسجدتَ الملائكة وعلّمته الأسماء ، وأسكنته بحبوحة النعيمِ والهناءْ . وحين أبى السجودَ إبليسُ اللعينْ ، وقال : أنظرني ! فكان من المنظرين ، فوسوس لآدمَ فعصاكْ ، ثم اعتراهُ النّدمُ فناجاكْ ، قلتَ : أنا التّوّابْ ، فقبلتَهُ وألبستهُ الثّوابْ .
وفيها فضائلُ سورةِ الكهفِ ترفع الدَّرجاتْ وتحطُّ عن كواهلنا السّيئاتْ ، التي لا أبالكَ تنقضُ الظَّهرْ ، وتعقد على النَّواصي الفقرْ ، فإذا أنت لَقىً في كلّ دربْ ، كأنك مقبورٌ في جُحر ضبّ ! فعند أهلِ الكهف تُحبس الأنفاسْ ، وتنصت الأرواحْ ، ويجمد الإحساسْ . أولئك الفتية من أرباب القصرْ ، ملءُ أبشارهم إيمانْ ، يرفضون الكفرْ ولو كان مرصَّعاً بالدُّر، ويعبدون الواحد الأحدْ ، ولو كانوا في القيود والزَّرَدْ .
وفيها من أعجب القصصْ ، قصةُ موسى والخِضْرْ ! لكم عانى موسى في سفره من غصصْ ! فالخِضْر مرّةً يجترح السّفينة ! ومرةّ في الغابِ يقتل الغلامْ ! ومرةً يبني جدارَ قومٍ بخلاء .. بدون أجرٍ أو ضغينة .. لم يُطعموا الظَّعينةْ ! دارت بموسى الأرضْ ، فقال : لم تقدر عليَّ صَبرا ، فقصَّ من أسرارهِ وعرَّى ، فقال للغلام : قمْ وانهضْ .
وفيها قصةُ الهُمامِ ذي القرنين ! فؤادهُ رزين ، وحكمه متينْ .. العدل عندهُ الوجودْ والحق عندهُ الحياه . يسير جيشُهُ كالموج كالجبالْ ، لا يرهب الملوك والذؤبانَ والأهوالْ، وحيثما حلَّتْ ركابُهُ تنبَّتتْ أشجارْ وأقبلت بقمحها السنابلْ ، فأشبع البطون ، وطبَّبَ المحزونْ
ولقّن الـ يأجوجَ والـ مأجوجَ درساً قاسياً عبر الزمانْ ، جزاء ما قد أسرفوا في القتل والطغيانْ ، من أكلوا الحقوق وضيّعوا الأمانة ، ودنّسوا الفضيلةْ بالإفك والرَّذيلةْ ، واغتصبوا وأحرقوا ، ودمّروا وأتلفوا ، فخفَّضوا الكرامْ ورفّعوا الأنذالْ
فثار ذو القرنيْنْ ، وجاء في شِعبيْن ، ومدَّ سّدَّا من برادة الحديد والنّيرانْ ، سدَّاً عظيماً مانعاً لا لم يدر يوما على الحسبانْ ، لكنه تقدير ربٍّ قادرٍ حنّانْ أن ينقذ الإنسانْ ، بالعلم والإيمانْ ، فحوصروا في السَّدِّ كالفئرانْ ) .
أخذتني من موعظته رِعدة ! وقد نزل كلام ابن سُكّرة من قلبي موضع التصديق ، وقد وقر في نفسي أن الله تاب عليه فأصبح ذا مكانة عالية من الدين . أجل لقد هداه الله ولولا ذلك لما رأيتُ الناس في المسجد ما بين باكٍ قد بلّت دموعُه ثيابَه ، وبين ضاربٍ بيديه على رأسه يقول : اقتلوني اقتلوني ، وبين منصرع يفحص الأرض بقدميه من شدة ما يلاقي من الوجد !!!
أجل إن الخطيب إذا كان صادقا مع الله، فإن الله يضع له القبول في قلوب الناس فيتأثرون ويخشعون ، وإلى الله ينيبون ، فاستغفرتُ الله من سوء ظني وخيبة فراستي ! وإذا ابن سكّرة يرمقني شزرا من على منبره الرفيع ، فكأنها ترامت إلى سمعه خواطري ، أو أنه قرأ ما يوسوسني به شيطاني ! وإذا بنبرته تعلو وتعلو ، فيقوم لها الناس بالتكبير والتهليل كأنهم في غزوة لا في مسجد :
( وفي الجمعة أيها الطيبون ساعةٌ مجابةُ الدّعاءْ .. فيها تُفتَّحُ السَّماءْ .. كأنها أزهارُ روضةٍ غنَّاء ، فتجوسُ في قلبك منها أصواتُ الهديل ، وسواقي الأنهار وهواتفُ النخيلْ ، فإذا دموع الرّجاءِ تنهلّ في وَجَلْ ، وإذا أيادي الضَّراعةِ ترتفع بالأملْ ، وإذا بخورُ المساجدِ يأسر الألبابْ ويفتح للهدى والرشاد ألف بابْ .. لا حكمَ فيها إلا للسّلامْ ، والحب والوئامْ ، وزيارة الأرحامْ .. رسالةُ التسامحْ والعفو والتصافح ) .
وبعد أن أنهى ابنُ سكَّرة خطبته ، تداخل الناس في بعضهم ! يتصافحون ويتعانقون حتى كادوا من حرارة الموقف أن يخنق بعضهم بعضا فقلت : والله لابد أن أصل إلى الخطيب ، ولكن هيهات هيهات ! فقد قامت بين عيني جبال من الصفوف ، وصار الناس يتسابقون ليأخذوا بركة المصافحة من الشيخ ابن سكّرة ، فلم أستطع إليه سبيلا، فخرجت من المسجد وأنا كلّي حسرةٌ بأني لم أتشرَّف بلقاءه وأضعتُ آخر أملٍ للعثور على عمل .
ثم ارتحلت بيَ الأيام وتخطَّفتني الدروبْ ، فمن عاملٍ في فندق إلى فرَّاشٍ في لوكندة ومن طبَّالٍ في حانةٍ إلى بائع كتبٍ في كشك حتى كانت ساعة الأصيلْ ، والشمسُ توشك على الرّحيلْ ، رأيت رجلاً متأبطا فتاتين فارعتين ، ضمار البطون تبدو عليهن ملامح أهل الصين ، وإذا بابن سكّرة الخطيب .. مرتدياً قميصاً فارهاً عاريَ الصدر يعضُّ على سيجارةٍ كوبية .. يترنَّم بالأشعار فرحاً مسرورا ، فآلايتُ على نفسي أن ألحقه فأفضحه ، فدافعتُ الزحام ووطأتُ الأعناق ، ما بين ساخطٍ ومقهورْ ، وما بين لاعنٍ معذورْ ، وما إنْ وصلتُ إليه حتى أغلق في وجهي باب القطار ، وهو يرمقني بتلك النظرة المعروفة يخرج لي لسانه .. باعثاً من النافذة بيته الشهير :
جاء الشتاء وعندي من حوائجهِ
سَبعٌ إذا القطرُ عن حاجاتنا حُبسا
….. ثمَّ علا صوت أنينِ القطار وغرق في الظلامْ .