- صدام الزيدي
لأكثر من خمس سنوات من العزلة والتشظي ومتاهة الجوع والمأساة الإنسانية التي وصلت إلى كل بيت ومدينة في البلاد، وجد الأدباء الشباب في اليمن أنفسهم أمام تحديات كثيرة، بين الكتابة ومواجهة الجوع وجهاً لوجه..
انعدمت الخدمات، هُجِّر الآلاف ونزحوا عن مدنهم في مناطق بلغتها نار الحرب
والاقتتال، عاشوا رعب الصواريخ وهي تسقط على الرؤوس وشهدوا بأم أعينهم على
اغتيال الكلمة وتكميم الأفواه، وقفوا وما زالوا في طوابير لا نهاية لها من
أجل الماء والدقيق والزيت، لا مرتبات للموظفين ولا مؤسسات ترعى المبدعين
وتنجز فعاليات وملتقيات لأجلهم، إلا من استثناءات قليلة…
أغلقت دور
النشر المحلية أبوابها وكذلك فعلت مؤسسات الثقافة والإبداع، غابت المؤسسة
الثقافية الرسمية وانشغلت بمايكرفون الحرب وإذكاء المزيد من ثقافة
الكراهية، لا دوريات ولا إصدارات ولا مجلات ثقافية وأدبية تصل البلاد، لا
ملاحق ثقافية.
مشهد كئيب ومنهار.. تمثل مواقع التواصل الاجتماعي نافذة ضوء بالنسبة للأدباء الشباب هنا، فهي الملاذ الأخير وسط العتمة الضارية مع أن الوصول إليها ليس منتظما بسبب رداءة خدمة النت وعذابات أخرى.
كيف هي يوميات الأدباء الشباب في اليمن؟ ما الذي يكتبونه؟ كيف هو المشهد من الداخل؟
أدباء وكتاب يمنيون شباب ونقاد من قلب المشهد البائس يتحدثون لـ”بين نهرين ماغازين”:
- الناقد والأكاديمي عبد الحميد الحسامي: مواقع التواصل نافذة المطر
قدر المثقف اليمني أن ينحت حياته في الصخر، وأن يبني منجزه الإبداعي في أزمنة الجدب، دون مؤسسات، ولا تحفيز، ولا مظاهر حياة.
يكتب النص الشعري في اللحظة التي يبحث فيها عن الرغيف، والماء، وقنينة الغاز، وإيجار المنزل.
يكتب المثقف اليمني، والمبدع اليمني اليوم شجونه، ويبحث عن أحلامه في لحظة غابت فيها الدولة التي كانت، وضاعت الدولة التي صاغها المبدع في أحلامه،
ورؤاه، ونسج لها صورة في خيالاته. فكانت المتاهة متاهات، وغدا المسار ظلمات بعضها فوق بعض.
المبدع اليمني ينتظر مطر الشبكة العنكبوتية، ولحظة
استقرار النت لديه هي لحظة غيث، وهي أمنية فيها يلتقط المبدع لحظة النفاذ
من أقطار السماوات والأرض بسلطان الشبكة العالمية التي تتعثر في سيرها
إليه، أو إطلالتها عليه، وقد تهجره أيامًا وعودتها في أجل غير معلوم.
سيزيف لا يبلغ قمة الجبل حاملا صخرته، إلا وتنسل من بين يديه، هاوية إلى الأسفل، ليعاود الكرة في معاناة لا تنتهي.
الحياة كلها كباد في كباد، وعناء بلا حدود. مع كل تلك المعاناة، يتمرد
المبدع اليمني على العوائق، وينطلق من بين رماد الحرائق فينيقًا لا يعرف
الهزيمة، ولا يعترف بالموت.
يكتب، يؤلف، يسابق، يشارك، يتمرد، يقيم
الفعاليات، ينفذ من بين الرصاص بقلم الرصاص ليرسم لوحة، وليؤسس صحيفة، يطبع ديوانًا، يفوز في مسابقة، يتحدى العدم، ويبدد من معاجم اللغة مفردات اليأس والإحباط والعجز.
أكلت الحرب كل مظاهر الحياة، وسلبت ما تبقى من رمق
حياة، وما تزال أيها المبدع اليمني تشعل أسئلتك في مضمار الفن، والجمال لا
تفتأ تعشق الوردة، وتصر على أن تسرق من الحرب راءها، لتخط قيم الحب ومعاني
الحياة.
جيل صاعد من الشعراء الشباب من شبابيك مواقع التواصل يطلون
باحثين عن الذات، يسترقون السمع، ويصوتون بما لديهم من حرف في ملأ
المبدعين، قائلين: ما نزال على قيد الحياة، نتحدى السجن والسجان، ونقهر
الحرب، نكتب الشعر على ضوء القمر.
جيل استثنائي بكل المقاييس، تغمرني
الفرحة كلما أطلت دندنة أحدهم في الفيس بوك، أو في مجموعة بالواتس آب،
وكلما غرد على غصن في تويتر، أو أصدر ديوانًا شعريًا أو مجموعة قصصية، أو
رواية.
جيل المعاناة والإبداع، ألا يولد الإبداع من رحم المعاناة كما يقال؟
ليست معاناة مفردة بل معاناة مركبة يتمرد عليها المبدع اليمني في أزمنة
الموت والرماد، ويسجل حضوره في المشهد مبدعًا مواكبًا للحياة، وللإبداع،
وللأمل.
سلام على كل من يتحدى الصعاب، وسلام على من يشعل في أفقنا ولو
شمعة واحدة، تحيي في أعماقنا الأمل، وتدفعنا لأن نطمئن بأننا على قيد
الحياة.
- الشاعر زين العابدين الضبيبي:
مُحاصرون بالمؤجر والديون وأمنيات أطفالنا المؤجلة
يعيش المشهد الثقافي اليمني حالة من البؤس كاملة الأركان، بؤس الحياة وظروفها الصعبة في ظل توقف المرتبات، وبؤس الجمود الثقافي حتى صار السماع عن اقامة فعالية يسبب نوعاً من الذهول الجماعي. لا يجد الكاتب والأديب في اليمن صحيفة لتنشر ولا نقابة لينتمي ولا منبراً ليبكي ولا دار نشر لتلم شتات حروفه المبعثرة وفوق ذلك وقبله لا يجد قوتاً لأطفاله في أغلب الأيام. في اليمن ثمة نقطة تفتيش أو كمين شرطة في حنجرة كل مبدع وأخرى متخفية بداخل غطاء قلمه. وكلهم يريدونه لهم لكن لا أحد يريد له الحياة الكريمة أو يهتم لأمره. لقد استبدل مبدعو اليمن الشباب والكهول الحبر بالدموع والصفحات بدفاتر الآهات المبعثرة فوق صدورهم. تحاصرهم عيون المؤجرين وشتائم الدائنين وتجرحهم أمنيات أطفالهم المؤجلة. هذه صورة مصغرة ومختصرة للمشهد الثقافي اليمني ولأقماره المحتضرة في أعوام الرمادة والرماد.
- الكاتب والناقد صلاح الأصبحي:
الأدب ضحية مريعة في اليمن
من المؤلم جداً البحث والحديث عن أدب الجيل الشاب في اليمن في ظل الحرب
ومآسيها التي قضت على الحرث والنسل ولم ينج منها الأدب الذي بدأ يبزغ
رويداً رويدا على يد ثلة من الجيل الشاب المتحمس والمتطلع والمؤهل باطلاع
واسع وموهبة فنية وإبداعية جعلت منه قادراً على التجاوز وعبور زمن الأسلاف
بمراحل طوال، إذ مكنته وسائل المعرفة المختلفة من الظهور أمام الجمهور
والقراء بصورة مدهشة ومثيرة للإنتباه وجذب الأنظار إليه محلياً وعربياً،
وهذا الأمر جلب فرحة غامرة في الوسط الثقافي والإبداعي اليمني إذ شهدت
سنوات ثلاث إبان ثورة فبراير نشاطاً محموماً للأدب برزت أعمال ونشاطات
أدبية متنوعة والأدهى من ذلك تشكل وعي فني حداثي في أوساط المجتمع وتغيرت
نظرة المجتمع للأدب بطريقة ايجابية، فسرى الإحساس في أعماقه بأهمية الأدب
ودوره في التحديث والتنوير فعمل هذا على إحداث تأثير وتحفيز معتبر حتى حلت انتكاسة الحرب في سبتمبر 2014 م، أصيب الأدب بشلل تام وأفل نجمه الذي بزغ, تبعثر ذلك الجيل الطامح وعاد معظم الكتاب إلى أدراجهم في الريف أو أماكن
مختلفة في الداخل أو في الخارج بخيبة وانكسار وهلع بحثاً عن ملجأ يحفظ
حياتهم ويؤمن أرواحهم التي أوشكت على السقوط بين براثن الحرب وصدمة حدوثها
وتهرباً من الزوابع والأفكار التي جلبتها الحرب في جعبتها التي أتت لتعيد
ذات الأدب وذات الأدباء بمختلف تصنيفاتهم إلى زمن سحيق لا مكان للإبداع فيه ولا قيمة للمبدعين في طياته…
وعلى القارئ العربي الذي يرغب بمعرفة
طبيعة أدب الشباب في اليمن في هذه السنوات الخمس أن يستوعب الصورة التي وضع فيها أدب هذا الجيل الشباب، فله أن يدرك أنه في ليلة وضحاها اختفت تلك
السبل التي عمل هذا الجيل على شقها في الوسط الثقافي والإبداعي ليوجد له
مكانة كنظرائه في بلدان الجوار إلا أنها تلاشت تلك المنابر الثقافية من صحف ومجلات أدبية ومؤسسات تهتم بهذا المجال كما لو أن الأدب أوصد بابه إلى حين آخر إذ لم يعد هناك سياقات يقفز فيها الأدب إلى الواجهة أو حتى يمر مرور
الكرام على حين غرة، ولست مبالغاً فيما أقول، فلك أن تتخيل أن بلداً منذ
سنوات لم يدخلها كتاب أو مجلة شهرية أو دورية من الدول العربية نظراً لضياع وإغلاق معظم المكتبات فيها وصعوبة وصول الكتب إليها في ظل هذه الحرب إلا
ما ندر من خلال ما يأتي به أحد المسافرين إلى الخارج تكرماً منه في جلب بعض النسخ لأي مبدع صدر له عمل أو أكثر ولم تصله نسخا من أعماله إلا بهذه
الطريقة المرة، ومن جانب آخر ساهمت الظروف المادية المتعثرة وانعدام فرص
العمل وتوقف رواتب المبدعين الشباب على جعل معظم الكتاب يستبعدون العزم على طباعة أعمالهم ونشرها وذلك للعجز وعدم الاقتدار عن دفع تكاليف الطبع
والنشر في دور النشر العربية، ولذا ما يُكتب لا يطبع، وكواحد من هذا الجيل
أعترف لأول مرة أن لي روايتين وكتابين نقديين كلها جاهزة للطبع إلا أنني لا أستطيع تقديمها لدور النشر لأسباب مادية واعتبارات فنية وثقافية تجعلني
أسقط هذا الأمر من دائرة اهتماماتي، وهناك الكثير مثلي، وعليه فإن القارئ
العربي يلحظ شحة وغياباً في حجم الإصدرات الأدبية التي ينتجها جيل الشباب
في اليمن، وقد لجأ بعض المبدعين إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمتنفس وحيد
تظهر فيها نتف من إبداعهم وكحيلة تربطهم مع قرائهم إلا إن سلبيات جمة
خلقتها وسائل التواصل كونها لا تعتمد على أسس وشروط معيارية يمكن اعتبارها
ذا جدوى للأدب وللمبدعين…
وما أود قوله في ختام هذا التعليق سألخصه في أمرين هما:
الأول: أطلب من مختلف مبدعينا الشباب شعراء وكتاب قصة وروائين ونقاد عدم
الاستسلام والرضوخ لهذا الظرف الراهن والتنحي عن مواصلة مسيرة الإبداع بل
عليهم الكتابة قدر المستطاع والتقاط وتوثيق هذه اللحظات التي نعيشها بمرارة والمليئة بأفكار ومشاريع ومواد دسمة أنتجها الواقع الذي نعانيه اليوم
وسيأتي يوم نتمكن من إعادة تدوير هذه الأعمال وتجهيزها وتقديمها للنشر
وستظهر حينها قدرتنا الإبداعية وتبرز لحظتها مواهبنا الأدبية.
الأمر
الآخر: أدعو كل المهتمين بالأدب والثقافة في اليمن أو في خارج اليمن ممن
يعملون في هذا الشأن سواء كمسؤولين أو كمبدعين الالتفات إلى المبدعين
الشباب في اليمن وتحفيزهم وتنشيط واستثمار مواهبهم الإبداعية وعدم تركها
للتهاوي والانهيار، فهناك الكثير من المؤسسات ودور النشر العربية تنحت في
الصخر في بعض البلدان العربية وتطبع بعض الأعمال الرثة وتغض الطرف وتتجاهل
أي إبداع وأدب ينتمي لأرض اليمن السعيد.
- الشاعر والكاتب ضياف البَرّاق:
نكتب كي لا ننقرض ثقافيًا
أولًا، المشهد الثقافي اليمني، شمالًا وجنوبًا، لا يبعث على الأمل على الإطلاق. لا يعيش بصحة جيدة. غير أننا سنظل نكافح باستمرار، إبداعيًا وجماليًا، كي لا تنطفئ أرواحنا المُبدِعة، الخلّاقة، وننقرض ثقافيًا. لكن هذا لا يعني أننا نتلقى أي دعم، أو رعاية واهتمام من مؤسسات ثقافية، أكانت وطنية أو خارجية، عامة أو خاصة، وكل ما نقدمه من عطاء إبداعي مستمر، عبر وسائل النشر الإلكترونية، إنما هو دليل قاطع على أننا نستحق الحياة الكريمة، لا هذا الموت الشنيع. أيضًا، نعاني من مشكلات كثيرة، أهمّا: هذا “التضييق” المُتطرِّف ضد حرية الكتابة، وانعدام الأمن والأمان، وغياب الدعم الخاص بالمجال الثقافي. هذه الحرب الفتّاكة، الشاملة، لم تتح لنا أيَّ فرصةٍ للازدهار والمضي قُدُمًا، وهي بالتأكيد ليست ضد الثقافة والمثقفين وحسب، ليست ضد الفن والإبداع فقط، بل إنها ضد حياة شعب بأكمله. من الطبيعي إذَنْ، خاصةً في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد كلها، أن يتراجع حضور المشهد الثقافي إلى هذا الحد الكئيب، المخيف، ويتراجع أيضًا دور المثقفين، وبخاصة الذين لم ينخرطوا في العنف ولم ينحازوا لأي طرف من أطراف الصراع. في المقابل، نلاحظ، بوضوح تام، انتشار ثقافة الكراهية وعلو صوت الخطاب المُتطرِّف وتنامي البؤس الثقافي. الحرب صارت ترعبنا أكثر من اللزوم، لدرجة أننا أصبحنا على وشك الاختناق، عالقين بين الألم واليأس. وأنا، شخصيًا، أشعر أنني لم أعد أستطيع الكتابة والنشر في ظل هذا الحرمان الشديد، وهذا الإرهاب الممنهج، والمتزايد يومًا بعد آخر، ضد الحقوق والحريات والجمال.
- الشاعرة كوثر الذبحاني: كفاح أول اليوم وكتابة عند آخر النهار
في الوضع الراهن يفر الكاتب اليمني إلى كيبورده وإلى قلمه ودفتره يتحاشى
الكثير من الأشياء، يظل لاهثا في النهار عن قوت يومه وفي آخر النهار يلملم
مشاهداته وذاكرته ليبدأ بنسج معاناته اليومية.. يفأجى أحيانا بالحرب فيكتب
عن القتلى وعما خلفته الحرب من معاناة وجوع، يكتب مأساة مجتمع فقد السيطرة
على نفسه حين داهمه الوجع ومسح الساسة بجشعهم كرامة من يعيش على هذا
التراب، يكتب أيضا عن تلك الأشياء التي تقلصت من بين يديه فجأة فأصبح لا
يهتم بالكتب الورقية بعد أن كان يدمنها ويقلب صفحاتها ليل نهار، صار بعضهم
قابضا على هاتفه يقلب الصفحات الإلكترونية والبعض الآخر لم يعد يأبه
للقراءة لأنه لم يعتد القراءة إلا من الورق.
أصبح حال المثقف اليمني
أكثر بؤسا، فبعض المثقفين ممن لديهم عشرات المؤلفات لم يجدوا عملا يسد
رمقهم ورمق عائلاتهم، والكثيرون في بيوتهم يفضلون الموت جوعا أو ألماً إذا
ما داهمهم المرض أو هددهم المؤجر بإخلاء السكن لعدم السداد وتراكم
الإيجارات.
في وضع كهذا، لا خيار لنا إلا أن نظل نكتب ونثابر ونكافح.
أما أنا ففي آخر النهار أجمعني على صفحة بيضاء أكتب عليها ما اقترفته يد
القدر على جبيني في الساعات الأولى ليوم محتشد بالعذابات.
- الشاعر أحمد عفيف النجار:
العدم يتشظى بين أناملنا…
في مشهدٍ أدبيِّ كهذا، والعدم بكل حذافيره يتشظى أمامنا، يا ترى ما الذي نفعلهُ؟ ما يفعلهُ الموتى، نمضغُ القات والذكرياتِ المُمِلَّة ثم نستمعُ لأغاني اليأس ونبكي.. نبكي بدون سبب.
لا شيء سوى العدم، عدم الضوء، عدم المعرفة والتجارب الجديدة، وعدم الشجاعة كي نقول اللحظة الراهنة بدمعِها ودمِها، وفوق كل هذه العدميَّة عدم الراعي الذي سيمنحُنا دفعةً من الأدرينالين كي ننشر ما سنكتبُهُ من محاولات بائسة، أي أننا نكتبُ للريح تمامًا.
ولم تبقَّ لنا من هِبات السماء إلا “النت” هذا الفجر والخنجر، حين نعطيه جُلَّ وقتِنا بينما هو:
“يُقرِّبُ منَّا بعيد الجراح، بضغطةِ زِر”.
- مجلة “بين نهرين”