- كتب: د. أحمد المخلافي
مضمون المشكلة، وأسلوب عرض الفكرة:
عرض الكاتب مشكلته (قضية عقوبة الإعدام)، بأسلوب روائي شيق ورصين.. وناقش فيها رجال القانون، محاولاً إقناعهم بإلغائها..
ونظراً لهذا الأسلوب لأنيق.. والفكرة الهادفة.. قررت أن أضع بين أيديكم ملخصاً لمضمون المشكلة وطريقة عرض الفكرة بإيجاز، على نحو ما يلي:
في معرض حديثه عن مقصلة باريس التي اشتهر بها أحد قادة الثورة الفرنسية (روبسبير)، يقول:
تأتي الثورات لتغير وتعدل من نظم المجتمع وأوضاعه.. ولكن المقصلة هي الشيء الوحيد الذي لا تقوضه الثورات.. والواقع أنه يندر أن تبخل الثورات بدم البشر.. ففي وقت الثورة، خذوا حذركم لأول رأس يهوي، لأنه يفتح شهية الشعب!.
ثم يتحدث، بأسف عن المحكوم عليهم بالإعدام، قائلاً:
يا لهم من بائسين مساكين يدفع بهم الجوع إلى السرقة، وهذه تدفع بهم إلى الباقي.. إنهم أطفال محرمون في مجتمع قاس.. تأخذهم إصلاحيات الأحداث في سن الثانية عشرة.. والسجون في الثامنة عشرة.. وتتلقفهم المقصلة في سن الأربعين.. إنهم سيئو الحظ.. وكان في وسعكم بمدرسة ومصنع أن تجعلوا منهم أناساً طيبين صالحين، أناساً نافعين ذوي خلق كريم.. إنهم سيئو الحظ.. تسلبون حياتهم بعد أن سرقتم الحرية منهم.. لقد كان من الواجب دائماً على أولئك الأقوياء حقاً أن يعنوا بالضعيف، وأن يهتموا بأمر الصغير.. فقضية الفقير المعدم هي قضية شعب.. فلو أنتم ألغيتم عقوبة الإعدام من أجل الشعب لأتممتم بهذا ما هو أهم من العمل السياسي، ولأتممتم عملا اجتماعيا بمعنى الكلمة.
ثم يحاور رجال القانون حول الخيارات القائمة والممكنة، قائلاً:
فلو اخترتم السجن فإنه يمثل حل وسط بين الموت والحرية.. فليست هناك حاجة لوجود الجلاد مادام السجان حاضراً.. إننا ننكر أن التعذيب يأتي بالنتيجة المرجوة منه.. فهو بدلا من أن يهذب الإنسان يضعف روحه المعنوية ويقتل لديه كل شعور، وبالتالي كل فضيلة.
إن هذا القانون العنيف الذي يخول لكم الحق في أن تسلبوا من الإنسان شيئاً لم تمنحوه إياه.. فأمامكم أمرين لا ثالث لهما:
الأول: إما أن يكون الإنسان الذي تقضون على حياته لا أسرة له ولا أهل ولا روابط في هذا العالم.. فلا يكون قد تلقى تربية أو تعليما أو عناية بنفسه.. فبأي حق إذن تقتلون هذا اليتيم البائس؟.. أتعاقبونه لأنه كان يزحف في طفولته على أرض لا سند له فيها ولا مرشد ولا معين؟!.. إنكم تعاقبونه إذن على العزلة التي تركتموه يهيم فيها على وجهه، وتجعلون من مصيبته هذه جريمة، وهو الذي لم يعلمه أحد ماذا كان عليه أن يفعل!.. إنه إنسان جاهل، والخطأ ليس خطأه، ولكنه خطأ القدر.. إنكم تعاقبون بريئاً!..
والثاني: إما أن هذا الإنسان ذو أسرة.. فهل تحسبون عندئذ أن الضربة التي تقطعون بها رقبته لا تصيب سواه؟.. وأن أباه وأمه وأولاده لن يقطروا دماً كذلك؟.. كلا.. فأنتم بقتله إنما تقطعون رقاب أسرة بكاملها.. فأنتم هنا تعاقبون الأبرياء!.. إن عقوبة الإعدام عقوبة شاذة عمياء.. على أي وجه نقلبها نجدها تصيب البريء!..
اسجنوا هذا الإنسان.. هذا المذنب الذي له أسره، فسوف يستطيع وهو في سجنه أن يتابع العمل من أجل ذويه.. إذ كيف يكون في وسعه أن يعولهم وهو راقد في قاع قبره؟.. ترى هل تفكرون دون أن تأخذكم الرجفة فيما سيؤول إليه أمر هؤلاء الصغار، والبنات الصغيرات الذين تنتزعون منهم والدهم، اعني لقمة العيش!.. أم هل تعولون هذه الأسرة لتزودوا بها السجن بعد خمسة عشر عاماً؟.. آه!.. يا للأبرياء المساكين..
هل فكرتم في روح هذا الإنسان؟.. وهل تجرءون على إزهاقها بمثل هذه السرعة، وبمثل هذا الاستخفاف؟.. فيما مضى، على الأقل كان هناك شيء من الإيمان في قلوب الناس، وفي اللحظة الحاسمة كانت نفحة الدين تلين أكثر القلوب قسوة وصلابة، فكان المحكوم عليه يكفر عن ذنبه، وكان الدين يفتح أمامه عالماً، في الوقت الذي كان المجتمع فيه يغلق في وجهه عالما آخر.. كانت النفوس جميعا تثق بالله، ولم تكن المشنقة إلا حد من حدود السماء.. أما الآن فما هو الأمل الذي تضعونه في مشنقة لا تؤمن بها الغالبية العظمى من الجماهير؟
ثم يبين منهجه أو وجهة نظره، بالقول:
قد يقول البعض أننا نفكر بعاطفة.. لكننا نقول إن المنطق معنا، والعاطفة معنا.. والتجربة تؤكد وجهة نظرنا كذلك.. ففي الدول النموذجية التي ألغت عقوبة الإعدام، أخذ مجموع الجرائم يقل فيها باطراد عاماً بعد عام.. فادخلوا هذا في حساباتكم.. ومع ذلك فإننا لا نطالب الآن بإلغاء عقوبة الإعدام إلغاء تاماً وبطريقة فجائية وعلى نحو طائش.. بل نريد، على العكس، أن نجرب كل المحاولات، وأن نأخذ كافة الاحتياطات، وأن نلزم في هذا الحذر كل الحذر.. ومن جهة أخرى فإننا لا نريد إلغاء عقوبة الإعدام فحسب.. وإنما نريد كذلك تعديلاً شاملاً لكل أنواع العقوبات من أولها إلى آخرها.. من الحبس البسيط إلى المقصلة.. على رجال القانون أن يتأكدوا من أن المذنب ارتكب جريمته بدافع من العاطفة أم بدافع من المنفعة؟.. فإذا كان بدافع العاطفة فيجب ألا يصدر عليه حكم الإعدام.. فهذا كفيل، على الأقل أن يبعد عنا بعض الأحكام التي تثير نفوسنا.. ويجب أن يتذكر الجميع أنه قد انتهى زمن تعذيب المتهمين، وولى عصر صلب المحكوم عليهم.
ثم يوضح ما قد يعتري هذا الطرح من غموض، ويبين هدفه بوضوح، قائلاً:
إن الذين ندموا على تقلص نفوذ الدين، استطعنا أن نقول لهم: إن الدين باق.. والذين يندمون على ذهاب الملوك، نستطيع أن نقول لهم: إن الوطن باق.. أما الذين سيندمون على ذهاب الجلاد، فليس لدينا ما نقوله لهم.. وكل ما نستطيع قوله هو: إن النظام لن يختفي باختفاء الجلاد، ولن يتأثر البناء الاجتماعي ولن تتداعى أعمدته.. وعلينا جميعاً أن نعالج هذه الظاهرة بالرحمة والإحسان بعد أن كانت تعالج بالغضب والانتقام.. وسوف يكون ذلك بسيطاً ورائعاً حقاً.. فالإحسان يحل مكان الانتقام.. والرحمة تحل محل القتل.. وهذا كل ما نهدف إليه.
وفي الأخير نجد الكاتب يتوسع في عرض تجارب (روائية) مفصلة، عبر فصول الكتاب المختلفة..
إنه حقاً كتاب رائع.. أنصح الجميع باقتنائه وقراءته..