- غادة عبدالله ناجي
كانت الساعة تقارب الرابعة عصراً عندما تناهى صوت نحيب وبكاء من منزل الحاج مسعود وعلى إثره بدأت نسوة الحي بتداول الخبر و التوافد إليه.
وهناك في ممر صغير مفتوح على صالة المنزل الواسعة حشرت منى نفسها فيه.
كانت تعابير وجهها المجهد تظهر أنها شابة لم تتخط بعد منتصف العشرين من عمرها.
كان ولداها ملتصقان بها وتطل من عينيهما نظرة الخوف مما يحدث وعدم استيعابهما له.
اقتربت بعض النسوة لمواساة منى لكنها لم تتحرك او تتفوه بكلمة واحده، كانت اشبه بمن سلبت منه حواسه مجتمعة.
ابتعدن عنها وهمسن لبعض:
-لا بد أنها حزينة فقد يغادر زوجها الحياة بأي لحظة.
-لم يكن بادياً عليها من قبل أنها تحبه فهي لطالما عانت الأمرين منه ومن زوجته الأولى.!!
-حقاً !! فلطالما اشتكت من ضربه لها وارهاق ضرتها لها في كافة اعمال المنزل .
- لا داعي للتعجب فهكذا بعض النسوة يزددن حباً في من يمعن بتعذيبهن أكثر.!!
في وسط الصالة كانت ضرتها رجاء تجلس على أريكة كبيرة وهي تبكي وتنوح بصوت أعلى كلما توافد عدد من النسوة إلى المنزل، وحولها اجتمعت بناتها الاربع ليشاركنها البكاء و نظرات البغض والكره صوب منى وصغيريها.
أما منى فلم تعول بالامر إذ انها تعودت على اسوأ من ذلك بكثير.
فقد بدأت معاناتها عندما تقدم الحاج مسعود لخطبتها و حينها وافق والدها عليه بسرعة فهو أحد كبار تجار المدينة وأثريائها وبنظره هو من سيجلب الثراء والحظ لأسرته الفقيرة المعدمة، لكن لسوء حظه فقد توفي إثر حادث سير بعد زواجها بأقل من إسبوع واحد، وقبل أن تتاح له فرصة التمتع بمهرها طويلا ً.
كان الحاج مسعود حينها في الستين من عمره في حين لم تتجاوز هي الرابعة عشر.
سرحت منى وتذكرت ساعات رعبها الأولى عندما هجم عليها في أول ليلة جمعتهما معاً، كان أشبه بوحش كاسر انقض على فريسته ليظهر لها مدى قوته !
“آه كم تمنيت الموت حينها، أو حتى محو همجية هذا العجوز المتغطرس من ذاكرتي وجسدي فهي لا تنفك تراودني ليس فقط في كوابيسي بل في يقظتي أيضاً برغم مرور هذه الأعوام الطويلة.” هكذا خاطبت نفسها بمرارة وغضب …
تابعت:” ترى هل سينجو هذه المرة ؟؟
لكن لن يكون هذا جديداً فهي ليست المرة الأولى التي يعود فيها من براثن الموت فقد تعرض من قبل لعدة وعكات صحية بحكم سنه وما يعانيه من ارتفاع في السكر والضغط غير أنه ما يلبث ويعود من جديد ليمارس غضبه وضربه لي وتباهيه أمام الجميع بأنه استطاع شرائي بماله وأنا التي تصغر كل أبنائه وعدداً من احفاده.
همست لنفسها برجاء :ما يزال هناك أمل بأن أتحرر من قفصي هذا وأخرج بطيري الصغيرين إلى مكان أجمل … آه يا إلهي سامحني فلست كمن يتمنى السوء لأحد لكني في نفس الوقت لم أعد احتمل فكرة عودته للحياة مجدداً.
إن جسدي ما يزال يئن من قسوة سياطه لكني في هذا الوقت لا استطيع منعه من الرقص فرحاً لمجرد التفكير بقرب الخلاص منه.
تنبهت على صوت الطبيب وهو يخرج من غرفة زوجها برفقة ولديه اللذان كان يبدو أنهما في منتصف عمريهما تقريباً وقال بأسى: عظم الله أجركم …لقد توفي ولم أتمكن من إنقاذه هذه المره .
صرخت رجاء مع بناتها في حين اسرعت منى لتلقي نظرة أخيرة عليه وكأنها غير مصدقة لما سمعته للتو.
اقتربت منه بخوف، كان مغمض العينين و بدا اكثر كهولة وشحوباً وضعفاً، غطت وجهه بلحاف السرير وألقت نظرة سريعة على سوطه الغليظ المعلق في وسط الحجرة فتسرب مزيد من الألم إلى أوصالها.
تدافع الجميع إلى الغرفة لوداعه في حين عادت هي بهدوء إلى مكانها الاول، ضمت ولديها نحو صدرها بلطف وابتسمت ابتسامة خفيفة ثم همست تطمئن نفسها : اطمئني يا منى فهذه المره ليست ككل مرة كنت تشعرين فيها بخيبة وتقولين إنه قاب قوسين من ملاقاة مصيره، لكني سأقول لك بما لايدع مجالاً للشك أن هذه المره حقاً لا مجال للعودة.