- كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني
في اعمال علي المقري السردية (طعم اسود رائحة سوداء، حرمة، اليهودي الحالي ، وبخور عدني) حضرت اليمن المهملة بتعدده وتنوعها الثقافي، و بتمايزها الطبقي والديني والعرقي والجنسوي ايضا، بأزمنة وامكنة وسراد مختلفين غير ان الامر سيختلف في” بلاد القائد ” اذ ستحضر بلاد اخرى، براوٍ يتكشف بضمير المتكلم في سياق سرد خطي واحد ، في شريط زمني قصير، وحيز مكاني محصور ، حاول تعويضهما في استنبات شخصيات متعدد لإثراء البُنى الحكائية في النص، بما فيها ، جعل سيرة الراوي تعمل بموازاة سيرة المروي عنه، مازجا بين سيرته ككاتب وسيرة الحاكم المراد كتابة سيرته.
صبَغ الحاكم البلاد ، التي اخضعها بالقهر والاستبداد ، بلون واحد وصوت اوحد هو صوته وسيَّرها بأدواته كما يريد مزاجه المريض، حتى انه غير اسمها من “عِرَاسوبيا” ، وهي اختصار لمسمى بلدان العراق وسوريا وليبيا ، الى “بلاد القائد” ، وفي اخر ايام حكمه اراد ان تكتب سيرته ” المبجلة” بأقلام اسماء ذات قيمة عالية، ومنهم الراوي في النص ، الذي هو بالمناسبة روائي رائج ، والذي يكثِّف سيرته في النص من بوابة الحاجة ( مرض الزوجة) ، والتي دعته لقبول دعوة الحاكم لكتابة سيرته ، ضمن لجنة متخصصة وبشكل سري.
السرّية ، في النص ، اشبه بعملية تواطؤ رغب بها الطرفان ، وعملا على تعزيزها، لحسابات تخص كل واحد منهما ، فالروائي لا يريد ان تتلطخ سمعته الادبية او كما قال ” اي قول يربطني بهذا القائد سيغيِّر سمعتي في الاوساط الادبية ” وبالمقابل لا يريد الحاكم لاحد ان يعرف ان الروائي قد كتب السيرة، او شارك في صياغتها ، فانتشار خبر كهذا سيكون مجلبا لشك الوسط الثقافي بما يكتبه القائد من كتب، اذ سيعتقدون ان هناك من يكتبها له ، وبالتأكيد سيكون اسم الروائي من بين هؤلاء المتهمين بعمل ذلك، كما يرد في احد السياقات السردية.
في هذه الجزئية يتعين علينا اولا الامساك بالمعضلة الآبدة في علاقة السلطة بالمثقف كمتلازمة تاريخية، لم يُستطع فض الاشتباك معها ، بوصفها احد تجليات الوعي الثقافي المكبل. فهي علاقة متبادلة تقوم في الاصل على الحاجة، التي من السهولة التبرير لها بضمير منيَّم من الطرف الاضعف الذي يكون في كل مرة هو المثقف.
حاجة المثقف ( الروائي) هو المال من اجل علاج زوجته المريضة ، وحاجة الحاكم هي في ان تكتب سيرته المختلفة بقلم كاتب متمرس دون ان يعلم بذلك احد ، ولكن قبل ان تكون حاجته هي في الاصل حاجة ابنته الشيماء، التي اقترحت اسمه على ابيها بعد ان قرات روايته الثانية التي تصوِّر الحرمان واللوعة والتمرد الجنسي ،لأنها أيقظت جمرات الحرمان بداخلها ، لم تستطع اقامتها داخل المؤسسة الزوجية وخارجها من اطفائها، فاستقربت من الرواية كاتبها، الذي تزوجته في السر واهدته تمثالا من الذهب الخالص لوالدها القائد ، لم يستطع تذويبه في داخل البلاد، اثناء حكم القائد خوفا من افتضاح امره، ولم يستطع اخراجه بعد مقتله بعد استيلاء الثوار على المطار والبلاد برمتها ، فتحول في نظره الى جثة من قذى، بذات كيفية جثة القائد، التي تبرَّز عليها المارة اثنا عرضها امامهم ، بعد قتلة في مجرى الصرف الصحي.
استبد بالقائد الضجر من الالقاب التي اطلقت عليه من كثرتها وشموليتها، فأرتأى في لقب المبجَّل الذي اقترحه الروائي جديدا ، ويمكن استخدامه في محتوى السيرة ، والتي لا يراد لها ان تكون متشابهة باي سيرة من سير ( اوديب ونيرون ويوليوس قيصر والاسكندر المقدوني ونابل وبوليفار وجيفارا ورؤساء امريكا من جورج واشنطن الى اوباما ) التي عددها الروائي امام اللجنة ، لكنهم يريدون ان تكون هي نفسها السيرة التي كُتبت من قبل، ونشرت في عبر عشرات الكتب والافلام واللوحات والمسلسلات التليفزيونية والدواوين الشعرية والقصص القصيرة والروايات .
اراد الروائي للسيرة ،التي اقترح تسميتها بـ ” العقد الجمان في سيرة المبجَّل الهمام” ، ان تتشكل من تسعة وتسعين فصاً، وهو عدد حبات المسبحة، وعدد الاسماء الحسنى، لكنه امرهم بصياغته بمئة فص يتوسطها الفص الاكبر ويحمل اهم الصفات كاسم اعظم ، كجوهرة نادرة، في تعالٍ على المقدس ودلالاته، لأنه اكبر من كل ما وصف وسيوصف.
فهو الحُلم / المبجَّل/المرجو/المُلهم/الهمام/القائد/ المناضل/ الثائر/ الزعيم/ العارف/ الوعد/ المخلَّد/البديع/الجلال/ المضيء/ المبهج/ المخيِّم/ المغيِّر/ الكُل/ الحل/ الربّ، وهنا حرص على ان ينوه الى ان الرب تجيء كقول رب البيت او رب الخيمة، لكي لا يظنها آخرون مرادفة للإله، هو يخاف من تأويل الناس وان تذهب التفسيرات بعيدا هو يخاف الناس ، لكنه لا يخاف الله بالتأكيد والا لما حاول الاقتراب من صفاته ، بل واستخدم مرادفات لصفاته نفسها، اذا لم يكن قد تجاوز هذه الصفات عاليا عاليا .
وعندما بدأت بوادر الانتفاضة تصل الى البلاد ، تغيرت نقاشات الاعضاء المكلفين بكتابة سيرته ، فصارت تخوض في موضوعات الانتخابات والديموقراطية واسلوب الحكم العادل والرشيد، فقال احد المتعصبين ان الشعب غير مؤهل للحرية ، اما الديموقراطية فهي دسيسة . ثم لماذا يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية وهو ليس رئيسا ؟ بذات الصيغ التي كان يقولها الحاكم عن نفسه.
الصور المركبة وتشظياتها في سِيَر الحكام العرب صارت في “بلاد القائد” حالة مجسمة في شخصه ، عرف الراوي كيف يعيد تجميعها بطريقة ذكية من تلوينات مختلفة، فهو حاضر تارة في شخص “صدام حسين” الذي عمل طيلة حكمه للانتقام من تاريخه الشخصي ومن الرفاق الذين اشعره بعضهم بهامشيته حين كان فقيرا، ومن هوسه الامني ودمويتة، وتحويل افراد كثير من العائلات الى مخبرين مع الاجهزة ضد بعضهم ، وتارة في “حافظ الاسد” الذي تعاظمت بداخلة شهوة التملك فاراد سوريا ان تقترن بشخصه كاسم وصورة حاضرة في كل شيء في المدرسة والشارع والكلية والمطار والمكتبة ورياض الاطفال وطلائع الحزب ، ومن اليمن اخذ من “إمامهم” الذي اشاع في اوساط العامة بقدرته على تسيير الجن ، وان لديه منهم المئات الذين يزودنه بأخبار الجميع ، واستخدم في ذلك حيلة الراديو الذي كان يجعله يصدر اصواتا من مكان خفي بعيدا عن المجلس ، الذي يدعى اليه بعض الوجهاء، فيخرجون لإشاعة حكاية الجن، وكان لدى القائد شمس الخلود ،التي ترتبط بالنجم الكاشف القادر على كشف خبايا الناس وبماذا يفكرون حسب ما اعتقد العامة ايضا. حتى ان الراوي حينما توقف طويلا امام الفص الثالث والثلاثين في عقد السيرة اراد ان يحضر قليلا في سيرة علي عبد الله صالح، والذي حكم اليمن في نفس العدد من السنين ، فهذا الرقم يحمل اكتمال الكمال للعمر الذي تبلغ فيه القيادة والزعامة والفخامة اوجهها، لكن هل يمكن القول ان الديكتاتور، اي ديكتاتور، او لنقل الثائر، والقائد والزعيم، بعد هذه السنة التي يبلغ فيها الاكتمال يتراجع الى ارذل الخلق كما قال الراوي.
غير ان الصورة المتجلية والواضحة للديكتاتور في “بلاد القائد” هي صورة حاكم ليبيا الاشهر “معمر القذافي” بغرائبية سلوكه، التي تجاوزت ما يمكن ادراكه عقلا من الملابس المزركشة ، والاحذية طويلة العنق بكعوبها الطويلة الشفافة المزينة بنقوش الافاعي والجماجم. بمبادراته التوحيدية التي لا تنهي ، فصار عند كتاب سيرته واعلامه ” الموحد العظيم، اكبر من كل الموحدين الفاشلين، وحدته وحدة لا تفك عراها ، وحدة قوية متماسكة بجبروت الزعيم القوي، امة في قبضة قائد ، امة هي روح القائد، موحّدها وموجدها ، خالقها ، بل خالقها الاعظم”.
كان يفكِّر بعمل شمس سوداء ، بدلا عن شمس الخلود البيضاء ونجمها الكاشف، لأنها ترتبط بلون فتيات افريقيا اللواتي يحظين بإعجابه الشديد، ولهذا لقبه احد رؤساء افريقيا بإمبراطور الكون، وهو لا يعرف ان القائد لا تعجبه هذه الصفة، هو يرى نفسه اكبر من امبراطور، بل ويرى نفسه في منزلة وسطى بين الله والنبي ، كما قال ابو اليُمن ضاحكا وهو يصفه، حيث كان قد بدأ يتجرأ في قول انتقاداته امام الجميع ، بعد ان كان يقولها للبعض خارج بيته، ولا يبوح بها امام عائلته التي تحول افرادها الى مخبرين مع الاجهزة.
واول حاكم عربي جعل حراسه الشخصيين من النساء ” الراهبات الثوريات”، اللواتي هنا في الرواية امينات السر الاكثر ولاء له، واكثرهن اخلاصا يقوم بتزويجها لاحد اتباعه القريبين ـ انموذج نوَّارة التي زوجها من كاتبه الخاص فصارت هي المتحكمة به وبنظام البيت.
وهو المؤلف الكبير الذي لا يبارى في حقول الكتابة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى التاريخية والادبية .
(**) ماتت سماح منسية هناك في القاهرة، بعد ان تعذر علاجها بسبب فقرها، في ذات الفترة التي قتل فيها القائد، الذي صار ينعته الراوي بالطاغية. ” لقد مات مليون ميتة منذ قالوا له لا، وصولا الى تلك النهاية الفظيعة . فبعد ان عثر عليه في حفرة لمياه الصرف الصحي، قاموا بتعليقه وصلبه على عمود حديدي ثم نزعوا اظافره بالقوة ، وقطعوا اصابع قدميه ويديه وذكورته وفقأوا عينيه. لم ينصتوا لاستغاثته ورجائه وزادوا في شنقه، و في الاخير وجَّهوا نحوه رصاصات لا عد لها . بعدها ربطوا جثته الى مؤخرة سيارة ،وجروها في الشوارع بين اكوام القمامة المتعفنة التي لم ترفع منذ اندلاع الثورة.” قٌتل ، فعمت الفوضى ارجاء البلاد ، وصار الكل ضد الكل ، يصرخون بلا معنى، إذ ” بدت الثورة وكأنها تعني التقارب مع الموت أكثر مما تعني الاقتراب من الحياة ، وكان على الرصاصة ان تخرج من اسلحتهم بل من اجسادهم كتنهدات او تنفس.” في الثورة خسر القائد حياته ، وخسر الراوي ( المثقف ) آماله كلها في الحصول على مبلغ مالي مجزٍ حلم به طويلا ، مقابل ما قام به في كتابة سيرة طاغية ، ابت الايام الا ان تُكتب بالدم. () بلاد القائد ـ رواية ـ علي المقري/ الناشر دار المتوسط / ميلانو ايطاليا ـ
الطبعة الاولى يوليو 2019
- المصدر: مجلة المدينة