- نجلاء القصيص
جلست تتأمل لحظات ما قبل الغروب على دكه مفروشة بالتراب، مرشوشة بالماء ومسوّرة بالحجارة، مرتفعة عن الأرض قليلا، يعتاد القرويون بناءها بجانب
البيوت.
بدت لها البيوت المتلاصقة لوحة بديعة رسمها محترف. الدخان
المتصاعد إلى السماء من فتحات السهوة* في السطح يجعل رائحة الخبز الغَرِبْ
تفوح بقوة، تفتح معها الشهية..
تذكرت يوم رحيلها إلى المدينة مع زوجها في بداية حياتهما. كان يوما حزينا فقد اعتصر الألم قلبها اعتصارا، فبمجرد انطلاقها توارت الشمس خلف السحب المتراكمة من شدة حزنها عليها. فكيف بأهلها وجيرانها الذين اعتادوا على ابتسامتها كل صباح.
طبعت معالم الطبيعة من وادٍ وجبل في ذاكرتها وكأنها لن تراها مرة أخرى، غابت السيارة خلف كثبان الرمال ، وغابت معها ابتسامتها..
أصيبت بالدوار حد التقيؤ قبل وصولها، بدت لها المدينة من بعيد واسعة،
بشوراعها العريضة بمبانيها العالية، وبسكانها المهرولين خلف أعمالهم التي
لا تنتهي.
صوت الأطفال يعلو ببراءة وهم يركضون في مدخل القرية، همهم التسلية.
دمعت عيناها دون سابق إنذار؛ فالسنوات حين تهرب من المستحيل الإمساك بها.
عودتها لقريتها لم تكن متوقعة؛ فموت والدتها المفاجئ جاء بها فاتحا شريط حياتها بلا تحفظ، من المدرسة، لصعود الجبل للذهاب لمورد الماء، للبحث عن اللبن من الجيران حين تكون بقرتهم حبلى.
مكثت شهرا يرتدي الحزن أعماقها، وهي تفترش ذاكرة الزمن الذي احتضن نبع حنانها والذكريات.
تستعيد سنوات ليست بالقليلة منذ مغادرتها القرية، كل شيء تغير، ملامح البشر وحتى معالم الطبيعة؛ فقد أفسدتها يد الإنسان بالعمارات والإهمال حتى تعرّى كل شيء من الجمال ولم يعد هناك سوى بقايا صور لروح اندثرت،
فأين الساقية وهدوء الروح والحب الذي يربط الناس أكثر من الأشجار المتلاصقة والكثيفة التي كان يتدلى منها أعشاش العصافير فتوقظ القرية صباحا وتطربهم لحين الغروب؟!
وهي تسترجع تلك الصور؛ أيقظها سؤال ابنها:
– أمي متى سنغادر؟ أعمالنا متوقفة منذ مدة.
- السهوة: مكان في اعلى البيوت الريفية القديمة لخروج دخان الطبخ منها.