- كتب: بدر العرابي
يمثل التداخل بين القصة الومضة والقصيدة الومضة ،كنوعين متصارعين في المشهد الأدبي الراهن ، ظاهرة فجة .ويبدو أن هذه الظاهرة عند (شوقي )_ تتوخى ( ولو دون وعي) تحصين القصيدة, من تهديد السرد (القصة الرواية ) الذي طفح في الراهن التواصلي ،في احتواء الأنواع الأدبية (بنيةً وطبيعةً وآليةً) من جهة ، واحتكار الذائقة الجمعية، من جهة أحرى.
كما يبدو من نصوص( شوقي شفيق ) التي يعمد فيها إلى تكثيف مظاهر التعالق بين البنى السردية والبنى الشعرية/الغنائية ،في القصيدة الواحدة__ أن ثمة مقاربة لرؤية خاصة ،في النص ، فحواها النأي بالقصيدة ،كنوع ،ولربما ، بذهنية المتلقي، بعيداً عن زحف الأنواع السردية (القصة /الرواية) أو محاولة لتحصينها من سطوة هذا الزحف ؛؛ ويبدو ذلك من خلال تواتر ظاهرة تكسير روتينية القصيدة ،التي ألفتها ذهنية التلقي، بشكل من التكرار الممل ، ذلك الروتين الذي قد يضعف مقاومتها ،فيجعلها تستجيب سريعاً لمد الأنواع السردية، التي تطغى في التوسع والسيادة على ذهنية التلقي ،على حساب انحسار حيز حاجة تلقي القصيدة ،كنوع تواصلي جمالي ،في الراهن النوعي للأدب .
وتتجسد أداة (شوقي شفيق )
لإنجاز مهمته تلك _في بروز بُنى متقابلة (سردية وشعرية)،مع غلبة الأولى
في النص الواحد ؛ إذ تتواتر الأنسقة السردية، في القصيدة ، من أعلى
العتبة ،حتى ما قبل المقطع أو المقطعين الأخيرين ،اللذين يعمد شوقي
لتكثيفهما النصي بغنائية وإنشائية دسمة ،كفيلة بتعطيل الامتداد السردي
المتوالي ، من بعد عتبة العنوان ،حتى ما قبل الختام ، فيعمد التكثيف
الشعري /الغنائي إلى نسف المدكر السردي الممتد ،المجسر بين النص والمتلقي
،مما يبدو السطر الختامي ،كوعاء تتهاوى فيه المتواليات السردية (من اعلى
النص) لتختفي بداخله، باثقةً الحمولة الغنائية (القصيدة المكثفة ) وحيدة،
أمام ذهن المتلقي.
لوحة
الحصان الذي كان يركض في لوحة في الجدار
الحصان الذي كان يمرح بين البراري ويرقص ؛ حين تهاوى الجدار
سقطت منه لوحته ،فبكى الجدار
وتداعى نهار (1) كوكب الهباء ص170
هوية
قال المغني لن أغني .
قالت عصافير الحديقة لن نغني
قالت جميع الكائنات _ وقد تبعثر صوتها في الوقت _
ليس لنا ألا نغني
قال المسدس هل أغني!(2) نفسه 172
فالمغني يقول (منطق/ خطاب مسرود )
العصافير تقول (قص/ خطاب مسرود ) من باب أن العصافير تغني ،كاستعارة ضعفت أركانها مع الزمن وغدت مقاربة للواقع .
الكائنات جميعها تغني ( خطاب مسرود )
لكن حين يقول (المسدس) بمفرده ،بعيداً عن التوالي السردي الذي يبدو على شكل (ملفوظات منقولة ) لكائنات متقاربة الصفات (حية) _ حينما يعلن (الجماد/الصلب) الغناء ؛ فإن غناءه سيكون مغايراً، وهو الموت، المضاد لحياة فاعلي الملفوظات السردية السابقة (الكائنات الحية/ الحياة ).
فالسطر :”قال المسدس هل أغني ” يتكثف دلالياً ؛ ليضعنا أمام اللامنطق ؛ لأن (غناء المغني منطق ،ثم غناء العصافير منطق توافقي ذهني ،وغناء الكائنات ،كذلك منطق توافقي ذهني ) لكن (غناء المسدس ) يلج بناء خارج الحقيقة ؛ تشخيص يضعنا خارج دائرة المنطق (صورة تمثيلية ) مستقاه من اللاوعي الموارب للمنطق التصويري ،الذي توالى من عتبة النص حتى ماقبل الختام ؛ تلك الصورة تتوثب بالذهن لضفة من الغنائية/الشعرية ،وترتقي به لفضاء بعيد عن فضاء المنطق المسرود .
برودة
نائماً كنت في بعض هذا الجسد
وحين بردت تغطيت بال..
ما تبقى من الجسد المتسع (3) نفسه
غطاء
حين رأتني عارية غطت نهديها بيديها
لما لم تسطع كفاها ستر النهدين
غطت نهديها بي (4) نفسه 176.
ظل
يلاحقني مثلما شرطي
فأخلعه عن إهابي
ولكن ضوءاً صغيراً
يعيد تخلقه في ثيابي.(5) نفسه 169
قيامة
حين قامت
نفض الكون جناحيه
وقام .
حين نامت
فارق الكون المنام (6) نفسه ص 171
في النصوص الآنفة ،نجد أنفسنا أمام حالة من إعمال الصراع بين النص
القصيدة والنص القصة ؛ وفي تجربة نصية ،تتوخى (دون وعي) منح القصيدة حصانة حضور واستدامة ،كنوع أدبي تواصلي ،في ذهنية التلقي ،التي تزحف (القصة/
الرواية/ النوع السردي ،عليها (أقصد ذائقة التلقي ) . ويتوسل النص آلياً
،ببنية مواربة؛ تعطل توغل الأنسقة السردية في رقعة النص ؛ ويبرز ذلك من
خلال تكرار أداة التعطيل تلك ، تدفع الذائقة إلى مقاومة هذا التوغل
النوعي (بغير وعي) ؛من خلال تقديم نص موارب الهوية ؛ تتكثف فيه الأنسقة
السردية ،منذ المفتتح حتى ماقبل الختام:
(الدرامية /لغة الحدث/ اللفظة (حين ) ثم تداخل الأحداث /مشاركة الفاعلين في الحدث (حين دخلنا الفندق ..نادانا المصعد
أدخلنا فيه
أغلقنا نحن المصعد
و(فتحتانا))
فتكثيف السردية هنا ينهمر عن طريق تتالي السرد وتتالي حالة التوتر
والتأزم الدرامي :(تعدد الأصوات/ الأشخاص ،بل الطغيان في تحويل الأشياء
لأشخاص فاعلة كالمصعد، الذي يتحول لشخص ينادي الأشخاص الفاعلين ) ؛وتلك
سمات رئيسة للقص/السرد) ؛ لكن أداة التعطيل النوعي ،تبرز في ( التخييل
القصيدي ( تجسيد المصعد ) كشخص وكصوت ثالث ؛ وذلك الإجراء إنما يتوسل خلط
حضور (ظاهرة تعدد الأصوات ) المتمثلة في (هو والآخر (نا الفاعلين )
المتكرر ،والذي يوحي بوجود شخوص ) وتلك سمة القص/ السرد ؛ و تجسيد المصعد
كشخص ثالث وربما رابع ،في السرد ؛ إنما هو محاولة لتعطيل واقعية ومنطقية
حضور ( الشخوص / الإنسان ) بشخوص غير حقيقين، و عن طريق خلط الإنسان
باللاإنسان (التخييل الكثيف )و تجسيد الجماد وضمه للأصوات الحقيقية الحية
الشاخصة ؛ ولعل الأكثر دلالة على الرغبة في تعطيل الأنسقة السردية ؛ ذلك
الانزياح التركيبي الفج للنظام اللغوي في اللفظة مسدلة الستار ( وفتحنانا ) ؛ إذ تعمد إلى خلط الأورراق على المتلقي ؛ في صورة فجة ، تفضي إلى إزاحة
ذهن المتلقي ،عن فضاء المدكر السردي الممتد من الأعلى ،حتى ما قبل
(وفتحنانا) _ لفضاء من الهذيان الممتع المخيب للانتظار المتلقي ؛ الذي
يستقيم على إبراز( فاعلين ,في الوقت نفسه،
هم مفعولي بهما في جملة
فعلية واحدة ) ؛ أي محاولة سلب وإزالة المدكر القصصي ، وتذويبه في قالب
انزياحي تركيبي صارخ ؛ كفيل بتعطيل النسق السردي ،داخل مساحة ذهن المتلقي ؛ وصرفه إلى مدكر كفيل بنقل ذهن التلقي لفضاء كثيف بتحول مركب، للمنطق (واقع الأشخاص) و ( المرجعية اللغوية المنزاحة بشكل فج ) ؛ ليسود المدكر
التواصلي الشعري/الغنائي ،الذي يقفل النص على المفاجئة ،ثم على سيادته
،دون انتظار لنهاية القص .
كما أن بنية النوع الأدبي السرد_ تُقام
في الأساس, على إطارين رئيسين ، فيما يخص طبيعتها وطبيعة تلقيها ، وهما (
البداية والنهاية ) ؛ و تقويض أحد هذين العنصرين البنيويين الفوقيين _ يعد
تعطيلاً نوعياً من الدرجة الأولى للنوع؛ ولعل اختيار نص شوقي شفيق ،تعطيل
القصة ( كنوع ) مقابل القصيدة ، من داخل القصيدة _ إنما يعد مظهراً
تكتيكياً بالغ الأثر ،من جانبين : ضرب الخصوصية الأجناسية النوعية ،من جهة
وتعطيل طقس تلقي النوع الطاغي،من جهة أخرى ؛ لحساب ترويض ذهنية التلقي
على التعطيل المستديم لتمدد الأنسقة السردية ، في الفضاء الذهني للتلقي
الفردي والجمعي .
لكن تلك المغامرة ؛ قلما تنجح في إحداث الأثر المتوخى منها ؛ إذ قد تؤدي ،أحياناً، إلى تعطيل النوعين معاً ،وإخراجهما من ثوابتهما المعيارية ،كليهما ؛ بما ينذر بتحول نوعي، مايزال في طوره التخلقي ، الذي يبحث عن إطاره النوعي المستقل .
وثمة ملمح ملح لهذه الظاهرة ،وحضور واسع في المشهد النوعي الراهن ؛ مما يضعنا أمام طفرة نوعية ؛ يقابلها فراغ تنظيري طبيعي، تعانيه النظرية الأدبية ؛إذ لا تسمح لها دينامية التحول ك(خاصة أدبية راسخة في النوع) إشهار النوع الجديد ،لما يتطلبه من الاختمار الزمني ،من جهة ،وما يبرز من اضطراب مرجعي لنظرية الأجناس الأدبية ،من جهة أخرى .