- كتب: بدر العرابي
اتساع رقعة التجديد في القصيدة العربية وتخليها عن بعض الثوابت
البنيوية (الوزن والإيقاع والقافية) ؛ إنما يدل على تحول عفوي لعمليات
الإدراك لدى الناص/ الشاعر ، والمتلقي ،أي تحولات وارتقاءات الذهنية
العربية عبر الزمن ،وبالتحديد تحولات وترقيات قوالب وآليات المشتغلات
الذهنية ،التي تترقى ، عبر الزمن ، وبشكل طبيعي عفوي ،عن أدوات الإدراك
التقليدية ؛ التي تضع كلفة وقيود وروابط إدراكية ، يؤدي استمرار
استخدامها إلى كلفة زمنية تشغيلية تقليدية متعددة وممتدة عبر وحدات زمنية
تقليدية تتخذ من التكرار والتدوير والتمدد ،منهجاً بنيوياً مثقلاً
بالعناصر، في الوقت الذي اتخذت فيه المشتغلات الذهنية الجمعية ،بدائلاً
وأدوات ،تتسم بالتحصيل الإدراكي غير المكلف زمنياً ولسانياً ؛وقد برز ذلك وبشكل من العفوية والتطورية ، في منظومة الحواس الإدراكية للإنسان ،في
أثناء الاتصال بالنص ( القصيدة ) ؛ فإذا كانت (و في عصور سابقة: عصر قصيدة النشأة ، ثم الإسلام ،والعصر الأموي ثم العباسي ،حتى العصر المملوكي )
إذا كانت الذهنية العربية، تعتمد في تشغيل الإدراك للوجود ،على كرنفال من
الحواس المشغلة بشكل كلي ( السمع / البصر / اللمس / الذوق .. إلخ ) أي
جميع الحواس ؛ فأن ثمة تحول لإدوات الإدراك ومشتغلاته ، في العمليات
العقلية ، عبر الزمن في الراهن ، يعمد إلى تخفيض كلفة اشتغال الحواس ،من
جهة ، وتخفيض استخدام البُنى النصية ،من جهة أخرى ؛ إذ قد يتم الضغط على
حاسة واحدة ،لتحقيق غاية التواصل الجمالي ك( البصر ) عبر التأمل الصامت
المحاكي للمشاعر ، في إيقاع روحي داخلي ، دون الحاجة للصخب والصوت ،وذلك
كفيل بتحقيق التواصل بين النص والمتلقي . ولعلنا نتذكر جيداً العصور
القديمة ،في مجمل الثقافات البشرية ومدى اعتمادها على الخطابية كآلية
للتواصل ،بكل أدواتها ،التي تأتزر بقوالب ضاغطة على حاسة السمع والبصر
والحواس الداخلية معاً ،في تشغيل فج ، لتشييد جسر وثيق ،يبني، بشكل من
الوثوقية، رابطة تواصل سميكة ،كمحصلة لاشتغال الحواس الجمعي ،بغية التأثير
والإقناع . كل تلك الكلفة ،ليس من الضروري استخدامها ،في العصر الراهن ، إذ بات تقليصها ضرورة ،بل و غير مضر بعملية الاتصال بين المرسل والمرسل إليه
،علاوة على أنه يؤدي الغاية التأثيرية والإقناعية والإمتاعية ، بأسلوب من
المرونة والمجانية والعمق .
وبناءً على ماسبق ،فأن القصيدة العربية مرت بعصور تحولية عفوية ،عمدت لتنظيمها ،وبشكل غير واعي، ترقيات الذهنية
العربية ؛ إذ امتثلت القصيدة العربية ،لهذا التحول الذهني ،الذي فحواه
تدقق وترفي قوالب التفكير والإدراك في العقلية العربية ،واعتمادها على
مشتغلات ذهنية غير مكلفة . لكن هذا الارتقاء كان بطيئاً إلى حد ما ،بسبب
ترقي ذهنيات الكتاب (المجددين ) بمعزل عن ترقي العمليات الذهنية الجمعية
عند المتلقين . فقد أحدثت قصيدة الشعر (المرسل ) قصيدة الشطر الواحد
،بمافيها من وحدة بحر الشعر وتناوب القافية المتعددة _لغطاً في التلقي
العربي ،وكانت محل خلاف في قبولها ؛ بحجة اختراقها البنية الموسيقية للنص.
والقصيدة المرسلة (ذات الشطر الواحد ) إنما هي شكل غير مباشر لانطلاقة
التحول الذهني وتوثب المشتغلات الذهنية العربية ،لآلية إدراكية حديثة
،تحاول التخلص من الروابط التقليدية للإدراك والتشغيل الذهني
الكلاسيكي،بحجة توفير الزمن وتقليص تراصف وتكثيف الأدوات ؛ إذ ألغتْ قصيدة
الشطر ( الشعر المرسل/ نازك الملائكة ) قطاع نصفي من الوحدات الإيقاعية
(عجُز البيت / المصراع الثاني للبيت الشعري التقليدي) وأبقت على نصف البُنى . وهذا التحول الشكلي ،إنما يدل على وثبة تجديدية في شكل القصيدة العربية
،مخضتها ،بشكل غير مباشر ،التحولات الذهنية في العقل العربي ؛ إذ استقطبت
الذهنية العربية بدائلاً معرفية متاحة وآليات جديدة ،أقل كلفة ،بدلاً عن
أدوات ،ظلت مكلفة زمناً ولساناً.
إلا أن موجة تحول ذهني في العقل
العربي ،أخرى ، وضعت الذهنية العربية ،أمام بدائل وآليات أكثر دقة ،تخفض من الصخب والخطابة والغنائية ، عكست نفسها على البنية الإيقاعية ،لتلقي الجزء الأكبر من البنية الإيقاعية ( شعر التفعيلة) لتغدو التفعيلة الواحدة
،إطاراً بنيوياً إيقاعياً ،بدلاً عن التفعيلات الثمان والست والأربع .
وهكذا كلما ترقت المشتغلات الذهنية ،بدفع من تطور مناهج المعرفة ثم
الإدراك ،اقتضت الحاجة للتخلص من الصخب والخطابية في الأدب ، حتى غدت
الصورة الشعرية ،هي العمود الثابت المؤطر لبنية القصيدة العربية الراهنة
،التي وجدت في التكثيف البنيوي للدلالة/ الصورة ، ضالتها بعيداً عن الصخب
الإيقاعي الظاهر .
يمكن أن نخلص من هذه الأطروحة _ إلى أن التحولات الشكلية التي مرت بها القصيدة العربية ؛ إنما تجسد ،وبشكل غير مباشر ، مراحل ترقيات وتشففات الذهنية العربية ، باعتبار القصيدة ،كممارسة إبداعية روحانية _ أدق وأعمق الممارسات المرتبطة بالفكر والثقافة العربية .