- ريان الشيباني
كانت الساعة الثامنة وعشر دقائق مساء، فوق سماء بحيرة تانا، اضطربت
طائرة الاثيوبية المتوجهة من أديس إلى القاهرة اضطرابا عنيفا. راق يوسف
زباطة، راكب الدرجة العادية، مشهد الستارة الزرقاء المرتعشة أمامه لمقصورة
الVIP والمنفرجة انفراجا حذرا، انسرب خلاله لحظا خلابا لكيف للعالم المميز
أن يصاب بالرعب.
رجال ونساء وقورون في عزلتهم، كانوا قد دفعوا مبالغا
مالية إضافية لشركة الطيران، ليتجنبوا عدوى أن يتحولوا إلى عامة، الوقوف في الطوابير، دفع نقالات المتاع في الأروقة. خصصت لهم دهاليز مرور مكيفة،
تنقلهم استثناء إلى المقاعد الأمامية للطائرات، دون الإصابة بالهلع أو
الرغبة في التدافع، يصلون وفوق الكراسي المنجدة تنتظرهم لحافات القطن
والوسائد، والستارة الزرقاء البائسة، التي لو لم تكن كذلك لما سمحت بتسرب
فزعهم إلى الأعداء خلف ظهورهم.
وها هي الكارثة تكاد أن تقع! فبما
تعصف عقولهم لتجنب السقوط في البحيرة.. بالمبلغ إلإضافي والستارة الزرقاء؟
اعتقد رجل دين ستيني بمسوحه “البلين” وصليبه المذهب، وهو يصحب زوجته
وابنته، أن الله اعتنى بنهايتهم على نحو ما يمثله الماء من رحمة، حظا في
مكانتهم داخل الكنيسة، قبل أن يصاب بالفزع وقد خال نفسه يهوي في الفضاء،
فيجلب له التيار الأهوج سكيرا من الدرجة العادية، لتدور بينهما المحادثة
التي جعلت من كاتب مرموق مثل سلمان رشدي، رجلا لا يعرف الأمان سبيلا إلى
حياته.
وإذا قدر لهذا البطريك الVIP تجاوز هذا المطب الجوي، سيجد
نفسه، يتخبط في فضاء بلا ستارة.. فيا لتعاسته! لقد اشترى تذكرة مميزة بلاصق أحمر لتكون حياته كذلك، لا ليكون موته سخيفا على هذا النحو. هنا فقط يحسد
السادة ال(VIPيئين) لصوص الدرجة العادية، أولئك الذين لو أتيحت لهم فرصة
الحصول على وشاح أو سماعة أذن او حتى طقم سكاكين وملاعق بلاستيكية، أن
يسرقوه في حقائب ظهورهم.
العجوز المحنطة دودي، تتذكر كيف كانت تترك كل الأوشحة على كراسي الطائرات خلف ظهرها وتمضي، خوفا من أن تجرح شيئا ساميا
في روحها.. أغمضت عينيها، فمر عليها طيف الطائرة تنقسم نصفين، ولأنها تعرف
أن روح التقاليد لا يجب ان تعمل في الكوارث، تشبثت بالستارة الزرقاء،
وتأهبت للسقوط على سطح المياه البارد، تردد: هذه البحيرة لي، هذا الهواء
الرطب لي.
ثم كيف تناسى العالم الظالم، وقد استلم نقودا اضافية، أن
يصمم موتا مميزا لهؤلاء المميزين. مثلا، ومع قصدية شركات الطيران تلغيز
جملة “حالات الطواريء” في سجلات السلامة للقفز على هذه اللحظة، كان على
الطائرة أن تنقسم من جهة الستارة، ليذهب ركاب الدرجة العادية إلى البر، ومن نجا منهم، تتلقفه احراش العليق دون أسف، كذلك تهب رياح الVIP التي يتم
التعاقد معها للقيام بهذه المهمة، ليصير ركاب الدرجة الأولى مع ستائرهم،
وصلبانهم، وعصيهم المذهبة، إلى قلب النيل الأزرق.
نعم، سيموتون، لكن
على الاقل هناك ستارة، ووجبة إضافية لا يدري المرء -قبل أن يهوي إلى
البحيرة- ما تحتوي لتصبح مميزة. ثم ما الكلمات لتقال في حضرة الكوارث،
طالما عثرنا على الارستقراطي صامتا وحصيفا. هل كان من الواجب تضمين بند في
إرشادات السلامة، يحدد النص الذي بصدده يموت المرء مميزا، وبكلمات قليلة لا تنتقص من موته، كما هو الامر بالنسبة لحصافته وصمته، هذا إذا تساءلنا في
الأصل، عن المسلك الدنيء الذي تسلكه شركات الطيران، في تصوير أن طائرة
تتحطم على ارتفاع 35 ألف متر يمكن لركابها النجاة إذا فتحوا ابواب مخارج
الطواريء، أو لبسوا كمامة الاوكسجين.
تهنا..
نزل سياسي في
متوسط عمره من برجه، متجاهلا ما تمثله الستارة من هيمنة، أزاحها عن آخرها،
والتفت خلفه إلى المواطن زباطة، راكب الدرجة العادية، وفكر للحظته، في
الخديعة الواقع فيها، وقد رأى أن مسافة تميزه عن صف كراسي العوام، لا تعدو
عن كونها 50 سنتيمترا.. هذا استطراد في غير محله، فهو يبحث عن سبب لتهدئة
خاطره، ولا يمكن أن يجده بين أقرانه المميزين، لأسباب قلناها كثيرا.
سأل السياسي زميله الراكب: هل هذا الاهتزاز طبيعي؟
ولأن الحقد الطبقي متجذر، في الذين إذا قدر لهم أن يموتوا، لا يذهبون
للبحث عما يعنيه وجودهم من خسارة.. نظر زباطة إلى جزء الستارة المشدود
باليد المرتعشة للسياسي، وداخله حقد إنسان المشاع على جندي حرس الحدود،
فقال:
– لا، هذا الشيء غير طبيعي البتة. إنني.. أعرف ما الذي يعينه
الاهتزاز على هذا العلو. الانسان عدو ما يجهل، لكنني والحمد لله لست كذلك.. هذه الستارة قد تقلل من فرص نجاتكم، لكنها ضرورية لكم على أية حال، ليس
لدي الكثير لأقوله. قم بمساعدة نفسك.
عاد السياسي ليطلب الأمان من
قرنائه بلا جدوى، فالعجوز دودي منشغلة بتصور كيف ستكون التغطيات الاعلامية
غير المنصفة لأخبار سقوطها المزمع.. كيف تتحول حصافتها ومتاعها الثقيل،
ووشاح الصوف، وقبل كل ذلك المبلغ الإضافي الذي دفعته، إلى ضرب من التغطية
التي لا تقول شيئا عن كل ذلك.
أن تكتب الصحف: قتل 200 شخص في تحطم
طائرة فوق بحيرة تانا، خبرا لا يضع اعتبارا للستارة، ولا لكونترات الVIP
التي تفتح لزبائنها باكرا، ولا تعطي توضيحا عن ثلة المميزين الغرقي،
والحياة التي اقتصدوها لتبذرها لحظة الأحوال الجوية هذه. كيف، إذن، للميثاق الإعلامي أن يتجاهل دور الرياح، ويغفل تمييز العليق عن الأمواج.. الشرف
المهدر بين من يموتون وهم فاردي أذرعتهم ويرددون: ها هي ذي اللحظة
المناسبة! وبين من يرتعشون وتصتك فرائصهم، وبارستقراطيتهم، لا يستطعون ان
ينبسوا: ها نحن ذا نموت!