- بقلم: د. قاسم المحبشي
الدماغ هو الجهاز المركزي ومحور التحكم في الجسد الحيواني والإنساني، فإذا تُرك بفطرته الغريزية بدون تأهيل وتنمية وتربية، يظل واقفًا عند اللحظة البيولوجية؛ لحظة إشباع الحاجات الحيوية في قاعدة هرم إبراهام ماسلو (الهواء، والماء، والغذاء، والتزاوج) في الغابات والبراري كما كانت الحياة في أولها، وربما استمرت ملايين السنين حتى أدرك الكائن الإنساني الحاجة الحيوية إلى الأمن والسلام، وتلك حاجة للاستقرار الاجتماعي تستدعي وجود بعض القيم والأعراف لتنظيم العيش المشترك للكائنات الاجتماعية.
وأول الحضارة هو الخوف من عاقبة اعتداء الإنسان على إنسان آخر، أو اعتداء جماعة على جماعة أخرى، وما يولده ذلك الاعتداء من ردة فعل وانتقام وعدوان مضاد. إذ لا فرق بين البشر والحيوانات إلا بقدرة البشر على ضبط غرائزهم الحيوانية وتقنينها بالقيم والأعراف والقانون والنظام.
وقد احتاجت الإنسانية ملايين السنين للانتقال من الحالة البدائية للعيش في كنف الطبيعة ومواردها المتاحة، والانتقال من الصيد والرعي والبداوة إلى الزراعة والتمدن والحضارة. فالحضارة هي أولًا «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي يرمي، من خلال التغيير، إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات «المتوحشون البريون Salvaticus».
ومع الحضارة تطورت الثقافة والمدنية، وتطورت وظيفة الدماغ عند الكائن الإنساني، إذ لم تعد تقتصر على رؤية وإدراك الفرائس واقتناصها أو الحذر منها، بل تطورت إلى الخيال والتخييل والشك والتفكير المجرّد، وهذا هو أرفع عمليات العقل البشري. ولكنه لا يتم هكذا من تلقاء ذاته، بل عبر اللغة والكلام والمران والتعليم والتدريب والتأهيل والتنوير.
ومن هنا جاءت الحاجة إلى الفلسفة والعلوم، بوصفها معنية بتأهيل وتنمية العقول وجعلها مثقفة، أي صالحة للزراعة. فالعقل مثل الأرض مهما كانت تربتها خصيبة لا تُنتج الثمار بدون حراثة وتهيئة بالماء والأسمدة، وكذلك هو العقل مهما كان ذكيًا لا يُنجب الأفكار والمعرفة بدون تعليم وتربية وتنمية وتهيئة.
ونقصد بتهيئة العقل التهيئة الكلية لكل البنية الدماغية المتعددة الوظائف، كما هو الحال في التربية البدنية للجسم الإنساني التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم، بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.
والفلسفة، بوصفها الوسيلة الممكنة لتنمية وتأهيل العقل تنمية عقلانية مستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي).
هذا المعنى هو تجسيد لمفهوم «الهابيتوس» عند بيير بورديو، بوصفه نسقًا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين والحياة والكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم.
ووفقًا لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولّدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل الوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.
أولًا: الاستيعاب؛ بمعنى القدرة على استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيًا، لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذا توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.
ثانيًا: الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزائها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.
ثالثًا: الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم)، وفي الفن (الذوق)، وفي الأخلاق (الضمير)، وفي الحياة (الفهم). وهو هدف وغاية كل تعليم وتعلّم، فإذا كان التعليم يعلّم المعرفة، فإن التعلّم يعلّم الفهم، وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدّعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى.
والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم، بينما الثقافة هي أن تفهم شيئًا عن كل شيء تعرفه، وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة. وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار.
والفلسفة هي ربيبة عصرها وبنت زمانها، وبهذا تختلف عن كل أشكال المعرفة والفكر الأخرى. فكل نظرة فلسفية محددة بعصر الفيلسوف وتصوراته الخاصة وأسلوبه الفريد المتميز في النظر إلى مشكلات عصره والتصدي لأسئلته الكبرى وصياغتها في رؤية عقلية كلية مجردة.
فالفيلسوف لا يأتي بالمعجزات، فأقصى ما يقوم به أن يشيد صورة مفهومية عن العالم في العصر الذي يعيش فيه. وفهم الفلسفة لا يكون إلا بفهم أسئلتها المتعينة في سياقاتها التاريخية والثقافية في عالم الممارسة الفورية المباشرة، والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي الحي الذي يحيط بالنص الفلسفي من جميع الجهات.
ولا توجد إجابات فلسفية جاهزة ومكتملة منقولة من الماضي كما هو الشأن في الأسطورة واللاهوت. ففي كل عصر من العصور يختار الإنسان نفسه من جديد.
فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة إبستمولوجية مع الأجوبة التي قدمتها الأسطورة للمعنى الكلي للعالم، إذ حلت النظرة العقلانية لتأمل الوجود وظواهره المختلفة بدلًا عن النظرة السحرية المتلحفة بالأسطورة، فكانت أسئلتها عن أصل الكون وحقيقة الوجود والفكر والمعرفة والقيم.
وحينما هيمنت النظرة اللاهوتية في فضاء العصور الوسيطة ازدهرت الفلسفة اللاهوتية المسيحية والإسلامية في تأمل العلاقة بين الله والعالم. ومنذ عصر النهضة الأوروبية حدثت القطيعة الإبستمولوجية مع نظريات الفيض الأفلوطينية والمنطق الصوري الأرسطي، وحينما استعاد الإنسان ثقته بنفسه وعقله وقدرته على المعرفة والتقدم وصناعة التاريخ ازدهرت فلسفة التاريخ والإنسان.
وهكذا ارتبط تجديد الفلسفة مع حركة الواقع والتاريخ وإيقاعاته، فكلما تغيرت الحياة والتاريخ زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة. ونعني بالتجديد هنا التجديد في الأسلوب والمعنى والمبنى.
والمفاهيم هي نظارات العقل، بمعنى من المعاني، إذ لا يتحقق التأمل والتفكير في العالم إلا عبرها ومن خلالها، وهي مفاهيم مكتسبة من اللغة والثقافة والتعليم والتربية. ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة، إذ لا تفكير إلا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام.
وإذا كان العقل يولد صفحة بيضاء بحسب جون لوك، فهو لا يظل كذلك بعد المهد، بل تنقش الثقافة واللغة والتربية والتعليم الكلمات والمفاهيم. لكن تلك المفاهيم يمكن أن تتحول بعد الاستخدام الطويل إلى أوثان وأوهام تكبل الفكر وتعيق نشاطه الدائم في تعقل العالم.
وعندما يتنكر الناس للفلسفة بوصفها مطهرًا للعقل، فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والضلالات والأخطاء.
وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة بالسؤال المتجاوز لذاته باستمرار، فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم:
ماذا أكون؟ وماذا أعرف؟ وكيف أعيش؟
إنها الميتافيزيقا، أي ما بعد الطبيعة، والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد؛ ففي عالم المقدس ليس هناك أسئلة، بل أجوبة وحمد وشكر.
أما في عالم الإنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. والعقل والتفكير والكلام هو القاسم المشترك بين الناس، أما العواطف والمشاعر والانفعالات والمعتقدات والأيديولوجيات فهي خاصة بالأفراد وبالجماعات.





