- كتب: أحمد السلامي

تضفي الروائية اللبنانية هدى بركات على أعمالها روحاً سردية جديدة، تتقصد في المقام الأول السير بالكتابة إلى ما يجعلها تلبي القيمة الأدبية والجمالية لتتحقق في النص الروائي؛ إذ تخبرك رواياتها أن ما من وظيفة للكتابة سوى أن تكون جميلة تحركها دافعية متجددة تتشكل بصورة جوانية في وعي الكاتب، فإن كنت تبحث عن الحكاية في أعمالها ستجدها، لكنها – أي الحكاية – ليست غاية السرد في ذاتها؛ فما تجمعه من خلاصات مشاهد الحكي في رواياتها سيخبرك شيئاً أعمق من الأحداث المروية، إذ تتحول إلى جسر لقول ما هو أهم بكثير من الحكاية، لذلك لا يفلح من يتناول رواياتها إذا كان من أولئك الحريصين على الاكتفاء بتلخيص مسار الأحداث في السرد وتتبع مآلات الشخصيات وإن كان الباحث عن هذا الهدف يلم بخيوط المشاهد السردية لكنه قد لا يتوصل بصورة مباشرة إلى ما تريد الكاتبة قوله بين السطور، لأن ثمة ما وراء الحكي وما وراء التداعيات التي تظل بحاجة إلى الاستيطان والتأمل بعمق لتكشف عن نفسها في السياق الكلي الذي لا يكتمل إلا بقراءة واعية.
في رواية «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن دار الآداب اللبنانية 2024 والتي فازت بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2025، يستكشف القارئ رحلة الشخصية الرئيسة في الرواية (هنادي) التي تبدأ بذكريات طفولة اعتيادية تشع بالجمال، ثم تصاب بمرض الأكروميغاليا (ضخم الأطراف)، كأن العالم بأجمعه أصيب في عينيها بالمرض، فتتغير حياتها لتتخذ مساراً مختلفاً، وعندما تروي ما جرى معها تجعل القارئ يعايش منظورها للحياة الكئيبة التي وجدت نفسها سجينة بداخلها، وهي التي كانت والدتها تعتبرها بديلة لشقيقتها هند التي توفيت وكانت في غاية الجمال، وكان على هنادي أن تكون الجميلة الحاضرة في عيني أمها لتعويضها عن فقد ابنتها الأخرى، لكن تشوه جسدها يدفع الأم إلى نبذها وإخفائها بعيداً عن أعين الآخرين.
هكذا تدور أجواء الرواية في عالم يتكثف فيه الحزن لتنسج الكاتبة خيوط أحداثها كما اعتادت في رواياتها السابقة من دون صخب أو مباشرة، ومن دون افتعال المشاهد التي تقود إلى تعاطف القارئ مع الشخصية فلا مكان لدى هدى بركات للمألوف أو المتوقع. يمضي القارئ بعد ذلك كما لو أنه أمام شريط سينمائي يصف تجليات عيش بطلة الرواية على هامش كل شيء، هامش الأمكنة والمدن والمجتمع، بعد أن تكسر هنادي أسوار العزلة التي وضعتها فيها والدتها وترحل إلى باريس، تعود أخيراً إلى لبنان وقد لفظها يأسها كما يلفظ الموج الحيتان النافقة.
يحيلنا أسلوب السرد عند هدى بركات إلى الاشتغال الموازي الذي طال الشعر الحديث، بعد أن بلغت الكتابة الشعرية منطقة إدراك مختلفة سمحت بالمزيد من المحو والتشذيب، وأطلقت سراح النص من قيود وأعباء القيام بالأدوار المنبرية..
بالمثل حررت هدى بركات الرواية من المهمات التي تثقل كاهل الأدب، وأعني أن جملتها السردية تفصح بالكلمات لتخلد فيها. أنها أسهمت بدور كبير في تحرير الرواية العربية من الاستعارات التي كانت تستهدف تحفيز القارئ على التأويل والبحث عما ترمز إليه الشخصيات والمواقف. فما تقوله الكاتبة وما تشير إليه لا يحفل بالترميز ولا يعني شيئاً آخر سواه، على الرغم من أن القارئ في كثير من الأحيان ما يزال يبحث عن معان وإسقاطات للسرد كانت في موجات سابقة من الكتابة الروائية العربية تستخدم في هذا السياق لضرورات من بينها التحايل على الرقيب أو التماهي مع شيوع توظيف الرمزية في الأدب.
أما هدى بركات فتذهب بالنص الروائي ليصب في مجرى الفن الخالص والسرد الذي يقدم نفسه في رحلة الأدب الإنساني من دون افتعال، إذ تتسلل جملتها إلى وعي القارئ وتحدث أثراً قد يكون مربكاً بهمسه وزهده عن الضجيج، لكنها جملة تدعم توطين الرواية في منجز الأدب العربي فتظهر في أعمالها كما لو أننا نكتب الرواية في الشرق منذ قرون، لذلك يحسب لها أنها مساهمة في استحضار الرواية العربية المعاصرة في حركة السرد العالمية، فعندما تقرأ لهدى بركات تشعر بأنها تكتب لتردم الهوة بين الرواية المترجمة من آداب العالم والرواية العربية، إذ تسعى برفق إلى أنسنة الصور المشهدية والبحث عن ذلك التقاطع الشفاف الذي يلتقي في مساراته جميع البشر، من دون الحاجة إلى التخلي عن الهاجس المحلي باعتباره المحفز للحكي.
نحن أمام كاتبة ذات تجارب تتجدد مع كل عمل تبدعه صاحبته، وتصبغ أعمالها بفلسفة تلوح داخل السرد لكنها لا تتظاهر أنها فلسفة ولا تهتم كثيراً بأن تصرح بذلك، إنما تدع المشاهد السردية تتوالى أمام القارئ على الصفحات كما لو أن حياة تستعاد بالكلمات لتخلد فيها.
القضايا الكبرى بالنسبة لهدى بركات هي تلك المرئية في عتمة النفس، وفي الهامش، ومن هنا فإن الكاتبة ليست بحاجة إلى موضوعات عمومية أو لا تستهويها ولا تقلق بشأن تضمينها، لأنها تغوص في مشهديات أكثر عمقاً ورؤية وإلهاماً بالنسبة لما ترى أنها معنية به لأنه يمتلك تلك القوة التي تحرضها على الكتابة.
كل ما يجعل برق الكتابة يلمع ويكرر الإلحاح والحضور يجعلها قادرة على قيادة دفتها بمتعة وصبر للوصول بكل عمل إلى اختلاف وإلى إضافة جديرة بالتأمل والفرح، أما الدرس الآخر الذي تستخلصه من أعمالها فهو درس أدبي بامتياز، إذ تجعلك جملتها السردية لا تنسى أنك تقرأ أدباً في نهاية الأمر، وأن على السرد ألا يقتصر على كونه وسيلة لنمو المعمار الحكائي فقط، بل هو حامل لغة وأسلوب فيه من الوعي بالمزالق والفرص الجمالية في العربية الكثير والكثير.
تكتب روايتها دون أن تكون معنية بتلبية الشروط التي يتواضع عليها المشهد بتواطؤ جماعي، وهي تلك الشروط التي بدأت أو أصبحت بالفعل تحد من خيارات التجريب والحرية في التجدد والمغامرة، وإذا جازت لنا المقارنة بين مشهد السرد ومشهد الشعر في أدبنا العربي المعاصر، والقول إن ثمة ما يوازي استمرار القصيدة التقليدية في عالم الرواية من حيث المحافظة والقلق على المعمار العمودي كما في بعض الشعر، سترى أن هدى بركات تمثل واحدة من التجارب التي خرجت على المعمار التقليدي في الرواية، وكأنها المسار الموازي للقصيدة الحديثة، مع حفاظها على ما يجعل من الرواية في رحلتها لخلخلة السياق المتوقع وفية للجمال الذي تستخلصه من الأدب الرفيع. وترى أنها كانت وفية كذلك لأسلوبها السردي خلال روايتها «هند أو أجمل امرأة في العالم»، والتي نجحت عبرها في فحص وتفكيك قيمة جمال الجسد ومنظور المجتمع القاسي ونبذه لمن يخسر هذا الامتياز من دون أن تكون له يد في اكتسابه كما في فقدانه، فيصبح الشعور بالاغتراب حتمياً، ولعل ورطة الإنسان مع أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة تلتقي مع موضوع هذه الرواية، حيث تضع الأدوات الحديثة مستخدمها في حالة صراع دائم وشكوك تجاه صورته وكيف تظهر أمام الآخرين، وهذا ما يجعل الرواية الجديدة للكاتبة تستكمل مشروعها الأدبي في تأمل العذابات الداخلية للفرد، إلى جانب استكشاف الآثار والتداعيات النفسية التي خلفتها الحروب والمنافي على الهوية ومعنى العودة إلى الوطن بعد أن صارت صورته القديمة ذكريات لا يوجد ما يسندها في الواقع لتحيا من جديد.
- عن مجلة “كتاب”.