- كتب: نبيل الشرعبي
كلما أمر من جوار هذا البرج_ كما يبدو بالصورة المرفقة والذي ينتصب بأحد شوارع العاصمة صنعاء، وتقبع بالجهة المقابلة منه إمرأة مع طفلتيها تستدر عطف المشاة للتصدق عليها، أتذكر رواية “الحمامة” للروائي الألماني باتريك زوسكيند..
يقول زوسكيند على لسان أحد شخوصه بالرواية، كنت حارساً في مصرف طيلة 30 عاماً وصباح كل يوم أشاهد مجنون يصحو من جوار المركبات الواقفة بالشارع ليبدأ يومه بطرح قبعته ليتصدق عليه المارة ونهاية النصف الأول من اليوم يجمع ذاك المجنون ما تصدق به الأخرين عليه ليشري بها علبة سردين وبضع أقراص رغيف..
يضيف كنت أمقت ذاك المجنون وأحتقره، وأتسأل في نفسي ما هذا الحقير الذي لا يفكر، فأنا أعمل طوال ما يقارب 8ساعات باليوم مقابل راتب شهري استعين به لدفع إيجار الغرفة التي أقيم فيها وأنفق الباقي على الطعام وغسل الملابس وتحسين مظهري، وأعيش قلق العمل، فيما هذا المجنون لا يفكر بشيء، أي مخلوق حقير يكون هذا المجنون..
يصمت حارس المصرف لبرهة، ثم يقول في أحد الأيام شاهدت المجنون وقد أنزل سرواله ووضع قدميه على إطار سيارتين واقفتين بالقرب منه، وبدأ بالتغوط بشكل مهين، حينها انصدمت وقلت في قرارة نفسي بأنه لا يمكنني فعل ذلك، فقضاء الحاجة مقرون بالستر حتى أني لا يمكن أن أقضي حاجتي في دورة مياه يقف شخص خارجها..
وبحسرة يذكر بأنه أحس بوجع وحزن وعاتب نفسه على كره للمجنون، وذهب قائلاً: كم نحن بني البشر حقراء وتافهين لا نشعر باستلاب إنسانية الإنسان، وترسخ في قرارة نفسي بأن جوهر الحرية الإنسانية لا يتحقق إذا ا لم يمتلك الشخص مرحاضاً مشتركاً على الأقل، فيما المجنون يتغوط بالشارع ولا أحد يآبه له، وبكل تأكيد هذا المجنون يتألم لواقعه وخذلان أخيه الإنسان له..
فما بالنا بإمرأة وطفلتين لا تملكان مصدر عيش كريم ولم يأبه لهن أحد، إن ما بين المرأة التي تفترش الجهة المقابلة للبرج الذي يبدو بالصورة بأحد شوارع العاصمة صنعاء، وبين المصرف والمجنون في أحد أحياء ألمانيا كما يورد زوسكيند قواسم مشتركة، فكما لم يأبه مدراء المصرف للمجنون، أيضاً لم يأبه لهذه المرأة أحد حتى مالك البرج الذي لم يفكر يوماً ما بالترجل عن سيارته والاقتراب منها لمعرفة بقاءها بالشارع مع طفلتيها لأعوام..
وليس مالك البرج وحده لم يأبه للمرأة وطفلتيها بل أيضاً المصرين على اتخاذ صفة دولة ومُلاك وأصحاب العمارات والمحلات بذات الشارع ومحصلي الرسوم المحلية التابعين للدولة وأخرين ميسوري الحال وربما مالكي ومسؤولي منظمات مجتمع مدني ترفع شعارات مساعدة الفقراء وحل مشاكلهم وتستغل الورقة الإنسانية لجلب التبرعات من العالم، هؤلاء كافتهم لم يفكروا بهذه المرأة وطفلتيها، لا من باب التراحم الذي يشدد عليه دين الإسلام ولا من باب المسؤولية الأخلاقية أو الإنسانية، ولا من باب المسؤولية الاجتماعية، كافتهم داسوا على إنسانيتهن وعبروا للظفر بأوقات مريحة والجلوس على أثاث وثير ولم يتذكرهن أحد.. أليس هذا قمة الخذلان والإنسلاخ من الإنسانية والأديان السماوية والقيم السوية والأخلاقية..
أجزم أنه لو كان هناك دولة تحترم نفسها لألزمت مالك البرج ببناء سكن وتوفير مصدر عيش كريم لهذه المرأة وطفلتيها ومن منطلق المسؤولية الاجتماعية التي تتوجب على رؤوس الأموال وسريان ذلك على كل مالك مركز أو برج تجاري أو سكني هذا إن كانت عاجزة هي أي الدولة..
مشهد هذه المرأة يكفي للجزم بأن لا دولة باليمن، وأن القائم ليس أكثر من مجموعة متسلطين اتخذوا من الصفة الرسمية مظلة للثراء والدوس على إنسانية اليمني لعبورهم نحو بناء الأبراج والمباني الفارهة.