- كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني
(1)
قبل أربعة أعوام ونصف، طُلب منّي كتابة شهادة قصيرة عن الدكتور المقالح لتضمينها ملفاً فتحته “منصة خيوط”، احتفاءً بمنجزه الشعري والأدبي عموماً، فكتبت عن “الحياة مؤثثة بالشعر والتسامح”، مشيراً إلى أن “الرجل الذي تجاوز عتبةَ الثمانين {وقتها}، وقيَّد المرضُ بعضَ حركته، {كان} لم يزل يكتب النصَّ شفيفاً ودافئاً ومُحباً، بلغةٍ تنتصر للجديد، وبخيارٍ مضمونيٍّ قبل الشكلى يعظِّم هذه القيمة؛ إذ لم تعد كتابة القصيدة (البيتية) بالنسبة له وسيطَ توصيلٍ لمتلقٍّ يحتفي بالطنين ويرقص لتطريبه في زمن التعمية الطويل والقاتل. فبعد أكثر من ستين عاماً من محاولاته الأولى للانفلات من سطوة التقليد، لم يزل المقالح مؤمناً بعملية التغيير الثقافي، التي يمكن الدلوفُ إليها من الحداثة الشعرية ضمنَ وسائلَ متعددةٍ في الكتابة، ومنها الدرسُ النقديُّ المواكب لها، الذي كان ولم يزل المقالح عنواناً صريحاً لها.
أنا وغيري، من أبناء جيل التسعينات الشعري (الشبان آنذاك والكهول اليوم)، ندين لهذا الرجل بالشيء الكثير؛ وهو الأمر الذي ينطبق على سابقينا ولاحقينا من الشعراء أيضاً، ليس لأنه احتفى بما نكتب بقدرٍ عالٍ من الحب، وإنما لأن الكثير منا لم يزلْ يتعلم منه القِيَمَ الفُضلى للتسامح، وكيف بإمكاننا تأثيث حياتنا بالشعر ومحبة الناس، مهما استبدّتْ بنا قسوةُ الأيام وتغوَّلَ رعاةُ الألم وصانعوه بداخلها”.
(2)
اليوم، وفي ذكرى وفاته الثانية، سيتوجّب على دارسي أثره الكبير في الحياة الثقافية اليمنية والعربية (من تلاميذ له وأصدقاء) إنجاز مقاربات أخرى متخففة من شيئين اثنين: أولهما حالة الانفعال العاطفي التي أنتجتها حالة الفقد، وثانيهما تستبصر تحققها القرائي من غياب الرجل الكلي، ففي الأولى لن يكون دوافعها إنشائية بطابع رثائي وتجليلي، وفي الثانية ستنزع عنها مآرب مختلفة مثل المجاملة والانتفاع التي تطبع علاقات الأحياء ببعضهم. مؤمنا أن هذا التخفف سيتيح للمشتغلين اكتشاف سيرة إبداعية وإنجاز عالي القيمة لشخص بقي أثره حاضراً ومتجدداً في الحياة الثقافية لأكثر من نصف قرن وتحديداً منذ إصداره لمجموعته الأولى (لا بُد من صنعاء) في العام 1971م (*) التي حملت روحاً تبشيرية مختلفة بماهية الشعر ورسالته الوجدانية والثقافية في إطار مسعى ثقافي جديدة يقوده مبدعون مؤمنون بتغيير وعي المجتمع الذي بقي حبيس الخرافة والتقليد لدهر من الزمن، ومن هؤلاء بل وفي مقدّمتهم الدكتور المقالح.
رسالة الشعر في هذه المجموعة، كما في بقية تجربته الشعرية الطويلة، كثّفها في بضعة أسطر في ورقة تقديمها إلى القارئ حين قال: “إنَّ الشعر كالتصوير، كالموسيقى ليس ترفاً ذهنياً، ولا ثياباً بلاغية يرتديها الحكام والممدوحون، بمناسبة أو بلا مناسبة، وإنما هو صوت ضمير الشعب والشاعر، والصورة الداخلية لأعماق الإنسان والفنان معاً”.
نصوص المجموعة الأولى تنوّعت موضوعاتها بما يقترب ويوضّح رسالة الشاعر تلك، فقصيدة كتبت لأبطال السبعين الذين دحروا القوات الملكية من المواقع التي حاصرت بها صنعاء – المدينة، التي أحبها وكتب لها قصيدته “المفتتح” وعنوَّن بها المجموعة، وصارت تالياً أغنية ترددها الشفاه: “يوم تغنى في منافينا القدر/ لا بُد من صنعاء وإن طال السفر/ لا بُد منها حبنا أشواقها/ تذوي حوالينا.. إلى أين المفر؟ إنَّا حملنا حزنها وجراحها/ تحت الجفون فأورقت وزكا الثمر”،
وقصيدة ثانية عنوانها “رسالة عامل في ميناء عدن يوم الاستقلال” – ويا للمفارقة أن يرحل الشاعر بعد خمس وخمسين سنة من كتابته لهذا النص، وفي عشية ذكرى الاستقلال- فالعامل الذي صوره الشاعر في نهار ذلك اليوم لم يعد ينتظر كسرة الإفطار ككل يوم ولم يعد يحلم بها، ففيه قتل معنى الجوع في دمه، واصبح أغنى أغنياء العصر، حتى إن وجه العصر صار مشدوداً إلى فمه، وأن قامته في غدت تمتد في الفضاء، تضرب في التخوم، تطاول السماء، تقبل الشمس وتعانق النجوم. وبعد عام سيعود ليكتب عن الجلاء والشهداء، في الذكرى الأولى لجلاء القوات البريطانية من عدن.
عبد الناصر يحضر هنا أيضاً، كالماء في ذاكرة النهر، ومثل الضوء في ذاكرة الشمس ومثل العطر في حدائق الورد، يعيش بيننا يمنحنا الغبطة والثورة. حتى وإن كان يجلله الضريح التي استلهمت القصيدة عنوانها منه “فوق ضريح عبد الناصر”.. بالمناسبة المقالح أصدر تالياً كتاباً عن عبد الناصر حمل عنوان “عبد الناصر واليمن”، فيه أعاد قراءة أدوار عبد الناصر الكبيرة في دعم الثورة اليمنية، وبناء دولتها الوليدة.
قصيدة “عاش الشعب”، التي سجلها لإذاعة صنعاء حين كان يعمل بها مذيعاً في يوم 29 سبتمبر 1962م – حذفها الحوثيون من المناهج مؤخراً – توثق الحضور الجمهوري للمقالح الشاعر والمنوَّر الكبير.
“سلمتْ أياديهم بُناة الفجر عشاق الكرامة/ الباذلين نفوسهم لله في (ليل القيامة)/ وضعوا الرؤوس على الأكف، ومرغوا وجه الإمامة/ صنعوا ضحى (سبتمبر) الغالي لنهضتنا علامة”.
اليوم وبعد أكثر من نصف قرن من مصافحة مجموعة “لا بُد من صنعاء” لجمهور القراءة صار للمقالح سبع عشرة مجموعة شعرية مطبوعة، وعديد مجاميع لم تزل مخطوطة -حسب قريبين من الراحل الكبير-
أما المقالح الناقد والمنظر الأدبي الكبير والأكاديمي المرموق فتدل عليه قرابة عشرين مؤلفاً، ابتدأها بموضوع رسالته للماجستير التي تحصل عليها من جامعة عين شمس في العام 1973عن “الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن”، ثم مؤلف أطروحة الدكتوراه عن “شعر العامية في اليمن” من الجامعة ذاته في العام 1977، قبل أن يؤسس هذان الكتابان لمشروع نقدي كبيرومتنوع، أكثر ما يميزه أنه نقل صوت اليمن والأدبي والثقافي بشكل عام إلى قارئ عربي كان يجهل التحولات الثقافية التي أحدثتها الجمهورية في بلد بقي معزولاً ومنسياً وهامشاً قصياً.
(3)
الشاعر المقالح تتلمذ في سن مبكر من عمره على يد الأستاذ أحمد محمد نعمان في المدرسة المتوسطة بحجة، حينما كان مرافقاً لوالده المسجون في نافع مع ثوار 1948، وكان يقول أن النعمان الإبن “محمد أحمد النعمان” هو الآخر درسه اللغة الإنجليزية، حينما كان مرافقاً لوالده المسجون في حجة أيضاً، التي كان قد اكتسبها، أي النعمان الابن، من دراسته في مدارس مدينة عدن حينما كان تلميذا صغيراً في فترة إقامة والده في المدينة بين 1944 و1948 بعد فراره من تعز مع رفيقه الزبيري، وتأسيسهما للحزب الأحرار اليمنيين ثم الجمعية اليمانية الكبرى.
في العام 1960، أكمل المقالح تعليمه في دار المعلمين في صنعاء، ثم عمل معلماً في المتوسطة، ومقدم برامج الإذاعة، وكان من قارئي البيان الأول للثورة.. وحينما اشتد انقسام الصف الجمهوري انتقل إلى القاهرة لإكمال تعليمه، بعد أن عادل مؤهلاته بشهادة البكالوريا، فاكمل تعليمه الجامعي في 1970.. لكنه قبل أن يستقر في القاهرة كان قد وصلها في العام 1958م لاستلام جائزة أدبية تُشرف عليها الجامعة العربية عن قصيدة شعرية له، ووثّق تلك الرحلة بصورة شائعة مع الزعيمين النعمان والزبيري وعلي بن علي الجائفي والدكتور ناجي سريع.
(4)
في رحلته الدراسية، بقي في القاهرة لأكثر من عشر سنوات، نسج خلالها علاقات مميّزة مع الطبقة الثقافية المصرية والعربية، وصار جسر وصل بين مثقفي الداخل والأسماء البارزة في المشهد الثقافي العربي، وحينما غادرها مطلع 1978، كان الانقسام العربي قد وصل ذروته بسبب تطبيع العلاقات بين مصر السادات والكيان الصهيوني.
تعيَّن بعيد عودته إلى صنعاء نائباً لرئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني، حين كان رئيسه الراحل الكبير أحمد حسين المروني، ثم رئيساً له بعد أن تعيّن الأخير دبلوماسياً في الخارجية أواخر السبعينات، ليحل في موقعه كنائب الراحل محمد أحمد الرعدي.. وبقي رئيساً للمركز حت آخر يوم في حياته.
في العام 1982م تولّى رئاسة جامعة صنعاء، التي شهدت على يديه توسعاً وتطوراً في غاية الأهمية، وصارت مقصداً لعشرات المثقفين والأكاديميين والعلماء العرب حين ضاقت بهم بلدانهم وأجهزتها القامعة. ولم تزل الفعاليات الثقافية الكبرى التي كانت تنظمها الجامعة عنواناً لتلك المرحلة، ومنها معارض صنعاء للكتاب، التي كانت تستقطب أهم دور النشر من بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد والدار البيضاء والكويت، وكان معرض صنعاء حينها واحدا من أهم خمسة معارض في المنطقة في الإقبال والفعاليات المصاحبة.. وبسبب هذا الحراك التنويري تعرض المقالح لحملات تشهير وتكفير متعددة من قوى دينية متطرّفة، ومن إماميين ناصبوه العداء والضغينة بسبب انحيازه لصوت الثورة ومشروع الجمهورية.
- صدرت عن الدار الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع في تعز، التي كان يمتلكها الروائي الراحل محمد أحمد عبد الولي.. قال لي الدكتور عباس عبد الولي، أحد العاملين بالمطبعة وقتها وشقيق محمد، أن الطبعة الأولى للمجموعة تولّت الدار طبعها على نفقتها بعد زيارة محمد عبد الولي للقاهرة في أوائل 1971 قبل اعتقاله، وتولّت مكتبة الوعي الثوري في تعز توزيعها.