- ليلى تباني
كاتبة جزائرية
“إن الثورات هي الجنون الذي يبوح به المقهورون ويكتبه العقلاء. هذه الثورات ليست غضب جياع ، بل إنّها ثورة أفكار ، كانت بذورها في حالة سبات و أزهرت بعد حلول ربيع العقل و انصهار جليد الخوف ، إذ لا يتطوّر المجتمع إلاّ بتطور الفكر ، ولا تطوّر لفكر إلا بالتغيير ، ولا تغيير دون ثورة، ولا حريّة إلاّ معها، ولا إنسانيّة عميقة إلاّ في حضورها. والثورة التي يقصدها فيلسوفنا ، هي الثورة الفكريّة العميقة التي تضعُ القيم الإنسانية ومبادئها موضع مساءلة وتفكير، وتُشرّح الواقع بكلّ ما يرزح تحته من فوضى ودماء وهمجيّة وعنف واستبداد. فكيف يمكن للثورة أن تقلب الثوابت وتغيّرها؟ وكيف لها أن تؤسّس للجديد؟ وهل يتمّ ذلك عبر الممارسة والفعل أم عبر العفويّة والتلقائيّة حدَّ الفوضى؟ وهل يجعلها ذلك تتلبّس بالفعل الفلسفي؟ أم هي مُجرّد ظاهرة إنسانيّة سرعان ما تذروها رياح النسيان؟.
يفترض أن يكون للنخب دور محوري في صناعة الثورات وإحداث التغيير وقيادة الشعوب. إن حوصلة مايريد الدكتور محبشي الوصول اليه وترسيخه في بحثه هذا هو أهمّ ، بل أخطر ما يمكن أن يستنبط ويطبّق ، ببراعة عزف كاتبنا على الوترين الحساسين في منظومة محركات المجتمع (النخبة و الثورة )، يريد ترسيخ فكرة أن لا تغيير إلا بالثورة ولا ثورة إلاّ بنضال ومصداقية مساعي النخبة ، وهي الحلقة المفقودة لدينا على الأقل في المجتمعات العربية ، يقول أنشتاين “لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذي اعتمدناه عندما خلقنا تلك المشاكل”. ينطبق هذا القول بدقة على الثورات التي تكتسح العالم العربي.
وحسب المحبشي ، أخطر ما في الوضع أن بعض أسرار انتصار الثورات وعلى رأسها العفوية وغياب القيادة هي نفسها أكبر المخاطر التي تهددها، الأمر ذاته الذي حدث مع الثورات العربية ، اذ لم تكن منطقية في شيء. فقد كانت عفوية وشعبية ومفاجئة، وأحدثت تغييرا سريعا، قبل أن تفرز قيادات تنهض بمرحلة ما قبل الثورة و ما بعدها . ويذهب إلى أعمق من ذلك ، فيرى أنّ النخب التي طالما خذلت شعبها وفشلت على مدى عقود في إحداث التغيير، و ساهمت في تجمّد الأوضاع، وأصبحت جزءا من الواقع المطلوب تغييره بل باتت عقبة في طريق التغيير، تعود لتتصدر المشهد وبنفس العقليات والسلوكيات والمقاربات الفاشلة . ويوعز ذلك إلى غياب التخطيط من طرف النخبة.
ويقدم الدكتور محبشي مقاربة فكرية عن الثورة والثورات العربية، تتجاوز المفهوم النّمطي الذي تناولته لحد الآن ثورة الشعوب العربية. فقد سعى إلى فحص عوامل ومسببات ونتائج ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والجزائر …..” وقد خلّفت هذه الظاهر الاجتماعية «الثورية » التي لم يشهد لها تاريخنا العربي مثيلً حالةهائجة وصاخبة ومضطربة من ردود الأفعال والانفعالات والمشاعر والتصوُّرات والأفكار والعصف الذهني والاستفزاز المعرفي والجذب الحماسي. ومثلي، مثل غيري، تحمستُ بقوة، وأحسستُ بسحر الظاهرة، وحضورها الآسر على الأجساد والأذهان، فأخذت أردِّد مع الناس ومع نفسي كلمة «ثورة » تحت وهم الاعتقاد بأنَّني أعي تمامًا عمّا أتحدَّث!.. وحينما تساءلتُ: «ما هي الثورة؟ تلكأتُ، ولم أجد جوابًا، وعجزتُ عن صياغة تعريف لها، بل أحسستُ بأنَّني لم أكن على وعي وإدراك وفهم واضح ومقنع ودقيق لمعنى «الكلمة » التي طالما درجتُ لساني على قولها بدون تردُّد أو حذر، وفي غير مناسبة. واكتشفتُ وقتئذٍ جهلي السقراطي، وقِلَّة حيلتي المعرفية تجاه هذه «الكلمة الآسرة ،»لكن ما شجَّعني أنَّ الاعتراف بالجهل هو الخطوة الأولى في طريق المعرفة، فأقرب الأشياء حميمية بالسبة لنا هي أبعدها عن فهمنا فالغارق في البحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقييمها وتقديرها كما هي عليه في الواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب. البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة كي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو) نحتاج إلى التأمُّل المنهجي، وجعل وعينا النقدي في حالة يقظة باستمرار كي نتمكن من رؤية الأشياء التي نشاهدها كُلّ يوم على حقيقتها الواقعية، ونستطيع الإمساك بخيوطها ودلالتها المخفيّة والمتشظية. ورُبَّما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم الاجتماعية و اعتبرها ثورات شعبوية بدأت بتفاقم الضغط الشعبي ، و آلت إلى نفق مظلم ، خيّبت آمال الشعوب لانّها تحوّرت من يوتوبيا ماقبل الثورة إلى ديستوبيا مابعد التّغيير المزعوم ، ويوعز الدكتور محبشي ذلك إلى غياب دور النخبة وتغييب الفكر الفلسفي ، في صنع النخب ويعتبر أن إيجابيات حركة التغيير الراهنة في الوطن العربي وسلبياتها ناجمة كلها عن عدم تفعيل نخبويتها .فالمطلوب من الثورات فعلا ليس إزاحة أنظمة أو اسقاط هيئات بقدر ماهو مطلوب منها تغيير الإنسان في جوهره على مدّ أزمنة يكون فيها ملقّحا ضد خطورة التأثير والرّدّة . فما عاد يكفي أن نثور ..بل يجب أولا أن نخلق الإنسان الذي يحمي الثورة.
لقد تتبع الدكتور قاسم المحبشي مفهوم الثورة وتحولاته في السياقات التاريخية والثقافية المختلفة بدقة متناهية إذ تسائل في مستهل دراسته ” فما هي إذن هذه التي تسمى «الثورة». جاء في لسان العرب لأبن منظور أن «ثار» الغبار سطع، و«أثاره» غيره، و «ثوّر» فلان الشر هيّجه وأظهره، و «الثور» ذكر البقر، و الأنثى «ثورة»، و «الثور» برج من أبراج الفلك. وعلى صعيد الاستخدام، تُطلق كلمة ثورة على ظواهر وأشياء عديدة ومختلفة، طبيعية وتاريخية: ثورة البراكين، ثورة الغضب، ثورة أسبارتاكوس، ثورة الزنج، الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة الزراعية في ألمانيا، الثورة الإنجليزية، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الثورة البرجوازية، الراديكالية، الثورة الروسية، الثورة الصينية، الثورة الثقافية،، الثورة العلمية، الثورة المعلوماتية، الثورة المضادة، الثورة المسلحة، الثورة السلمية، الثورات الاجتماعية، الثورة الشعبية، ثورة البروليتاريا، ثورة الشباب في أوروبا 1968، ثورة الطلبة، الثورات التحررية، ثورة الخبز، الثورة البرتقالية، الثورة المخملية، ثورة الحرية والكرامة، ثورات الربيع العربي،.. إلخ. وهكذا نجد أن مفهوم «ثورة» قد أخذ يتسع ويغطي ظواهر كثيرة ومتنوعة، لا علاقة تجمع بينها في بعض الأحيان. وتأتي هذه المحاولة المتواضعة بهدف تسليط الضوء على البنية المفهومية لهذه الظاهرة، وتحولاتها التاريخية.
ونقصد هنا بتحولات «مفهوم» الثورة من حيث هو مفهوم نظري، أنه قد خضع في تاريخه الداخلي والخارجي لتحولات عميقة، وتجسدات متنوعة في المعنى والدلالة والتفاعلات والممارسات حسب السياقات التاريخية والاجتماعية المشخصة التي خبرتها.ويهمنا هنا، التركيز على الأبعاد والمعاني السياسية والاجتماعية لمفهوم الثورة بما هو موضوعاً لعدد من أنساق العلوم الاجتماعية الإنسانية؛ الفلسفة السياسية، تاريخ الفكر السياسي، علم السياسة، والانثروبولوجيا السياسية، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم سيوسولوجيا الثورات حسب علم الاجتماع الفرنسي “أندريه ديكوفل” الذي أكد أن هذا الأخير يهتم بالعناصر والقوى والعلاقات والأعمال والسير والأفكار والصور والايدولوجيا التي تتكون منها هذه الظاهرة. إن الثورة من حيث هي ظاهرة تاريخية ومفهوم مجرد تنتمي إلى العصر الحديث، وترتبط ارتباطاً عضوياً بمشروع الحداثة التي شهدتها أوروبا منذ بزوغ فجر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي، وامتدت لنحو ثلاثة قرون.كان العصر الأوروبي يعج بالحركة الدائبة، والتغيرات الكثيرة، ومعنى النهضة نفسه هو بعث وأحياء، وحرفياً ميلاد جديد، كانت ولادة شيء ما لم يحدث أن تصوره أو صممه إنسان في الزمن الماضي. وفي كل مكان، أخذت تشيع نظرة جديدة تجاه الحياة والعالم والكون. تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم وإلى الحياة والعصر والتاريخ، الفاعلية هي الشعار الجديد الذي ساد، الإنسان الجديد يعمل وينافس ويتقدم ويغامر ويجازف، يخسر ويربح. فالنهضة كانت قد أطلقت طاقات الإنسان، وحررت قواه، وحفزت مواهبه، وأفضى ذلك الاهتمام المتزايد بالحياة الإنسانية، وبالجسد الإنساني، وبالطبيعة وبالعمل والنشاط والخلق والإبداع… وبهذا المعنى نفهم تعريف الفرنسي (آلان تورين) للحداثة في كتابه “نقد الحداثة” بقوله: « إن فكرة الحداثة في شكلها الأعظم طموحاً كانت التأكيد على إن الإنسان هو ما يصنعه» إذ إن مفهوم الثورة لم ينشأ في الفراغ، بل نشأ وتبلور وتمت صياغته في السياق التاريخي الاجتماعي المشخّص لحركة المجتمع وتطوره على جميع الصُعد: الحضارية والثقافية والمدنية. إذ ما كان لفكرة الثورة أن تتوطد بالحجج المجردة، والتنظيرات المنطقية، بل كان يحكم عليها من خلال الدليل والوقائع والحقائق التي كانت تتنضد في عالم الممارسة المشخصة، في لحظة شهد فيها التاريخ أعظم عملية تحول ثوري من التقليد إلى الحداثة. فظاهرة الثورة كانت قد ارتبطت بجملة من الظواهر والممارسات والأفكار والمفاهيم العلمانية، العقلانية، التقدم، الحرية، العلم، الليبرالية، الديمقراطية، الدولة – الأمة، المجتمع المدني.لقد نشأت الثورة في فضاء ومناخ ومزاج ثوري عام وشامل، تقول حنا أرندت: «إن ما نسميه الثورة هو بالضبط تلك المرحلة الانتقالية التي تؤدي ميلاد مملكة أنسانية جديدة».
ومن هنا فنحن نعيش ما يشبه الثورات في انتظار مايشبه النخب كي تؤدي ما عليها.
…..يتبع