- كتب: د. قاسم المحبشي
ما الذي يفسر نهضة اليابان والصين والهند والنمور الآسيوية الأخرى منذ بداية القرن العشرين ، بعد أن كانت واقعة تحت نير الاستعمار الغربي وتنويعاته المختلفة، مثل ما كانت عليه المنطقة العربية تماما؟ لماذا نهضت شعوب الشرق آسيوية في الشرق الأقصى والأدنى بينما ظل الشرق الأوسط كما كان متخلفا وها هو اليوم بات يشكّل نقطة سوداء في بلاد الشرق والعالم أجمع ؟ هذا في حين كانت اوضاع الدول العربية بالقياس الى البلدان الشرق آسيوية الناهضة اليوم مثل كوريا وسنغافورة وماليزيا وتايوان بل حتى الهند والصين واليابان ، كان وضع بعض الدول العربية وقدراتها الاقتصادية أفضل بكثير من وضع الدول الناهضة قبل نهضتها طبعا؟ لماذا تعثرت حركة النمو والتنمية واليقظة والنهوض في البلاد العربية الإسلامية واين يمكن لنا العثور عن الأسباب التي يمكنها تفسير هذا الأمر ؟!.
ثمة من يرى أن وراء نهضة الشعوب الشرق آسيوية أسباب ثقافية ، وأن الفلسفات والعقائد الفكرية الشرق آسيوية مثل الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية والجيانية بما تمتلكه من منظومة قيمية إيجابية تحث على السلام والتناغم والانسجام والإيثار والتضحية والأخلاص بالعمل والنزعة الجماعية ونبذ الأنانية وقمع الشهوات والانفعالات العنفية والنزعة السلامية وحرية الذوات الفردية في ممارسة الخبرات الدينية ونبذ التعصب والتطرف والتكفير ومن ثم تعايش المذاهب والاعتقادات والطوائف والأفكار والأديان بكل سلاسة وتقدير واحترام في الدولة الواحدة اذ يوجد في الهند وحدها اكثر من ألفي طائفة دينية متعايشة.
لقد أثارت نهضة الشرق الآسيوي حَفِيظة أوروبا الغربية وجعلتها تعيد التفكير من جديد في الشرق ومعناه وممكناته، فكان المدخل الثقافي في تفسير تلك الظاهر هو ما جذب الكثير من الأهتمام بعد أن تبين عدم كفاية المداخل النظرية الآخرى التي تم الرهان عليها في الغرب ، ومنها المدخل العسكري الأمني والمدخل المادي الاقتصادي ، والمدخل التعليمي التربوي وغير ذلك ، في السنوات الأخيرة بدأت الدوائر الأكاديمية والثقافية الاورأمري تعيد النظر والتفكير بأطروحة ماكس فيبر ، البروتستاتنية وروح الرأسمالية ، في محاولة لتفسير وفهم الحالة الشرقية، وهذا ما يفسر حضور مفهوم القيم الشرق آسيوية الذي أخذ يزدهر اليوم في الفضاء الثقافي العالمي المعاصر.
ابحثوا عن الثقافة بوصفها البنية الكلية للمجتمع تضم كل ما تفكر فيه ونفعله ونفضله أي التفضيلات القيمية والعلاقات الاجتماعية وأنماط واساليب الحياة ! والنَّاس يسلكون بحسب ما يعتقدون. وسؤال العلم الاجتماعي ليس هو ماذا يفعل الناس ويعتقدون ويقولون؟! ولكن لماذا يفعلون ما يفعلونه في حاضرهم المباشر؟ ولماذا يعتقدون ما يعتقدونه ويقولون ما يقولونه؟!
إنها الثقافة ياسادة التي تشّكل الهابيتوس الذي يُنمّط سلوك الناس وحياتهم على هذا النحو أو آخر. وفِي الثقافة مفتاح السر والمعنى. والثقافة تتكون من كل ما يشكّل سلوكنا وأفعالنا وعاداتنا وتقاليدنا وقيمنا وتفضيلاتنا الأخلاقية والجمالية وكل ما نفكر ونحلم فيه. وكيف يمكن للثقافة أن تكون دافعة أو معرقلة للتنمية ؟ اليكم الاجابة.
الثقافة بوصفها القوة الإبداعية في التاريخ تتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي: اولا: العلم بكل أشكاله وأنماطه ونظرياته ومناهجه وأدواته ومجالاته الطبيعية والرياضية المنطقية والميتافيزيقية والتاريخية الإنسانية والاجتماعية. فكل ما يتصل بممارسة العلم تعليما وتفكيرا واكتشافا واختراعا وتأملا وتفسيرا وفهما هو نشاط ثقافي بالضرورة.
ثانيا: الأدب بكل أنواعه وأساليبه ومجالاته الشعرية والنثرية الخيالية والسردية الاسطورية والواقعية بما في ذلك الايديولوجيات والمعتقدات والتصوف وكل الخطابات النثرية والشعرية تندرج في البنية الكلية للنشاط الأدبي الإبداعي والإخباري.
ثالثا: الفن بكل حقوله ومظاهره الجمالية البصرية والسمعية الايقاعية والتشكيلة، من الرقص والموسيقى والتصميم والتشكيل والهندسة وكل ما نشاط يشتمل على مواهب وقدرات فنية في الصناعة والعمارة والتعدين والتخشيب والفلاحة والصيد وغيرها. وبهذا تكون الثقافة هي القوة الإبداعية في التاريخ بمعناها الواسع. انها تبدع التاريخ وتعيد تشكله باستمرار ولا تقدم ولا تطور ولا نماء ولا ارتقاء بدون معرفة الطبيعة وفهم ديناميكيتها وتفسير قوانين حركتها المعرفة التي لا تكون الا بالعلوم الطبيعية التجربية الموضوعية القادرة على الاكتشاف والاختراع والتفسير والتنبؤ. وتلك هي وظيفة العلوم البحتة. ولا تقدم ولا تطور ولا نماء ولا ارتقاء الا بفهم حركة المجتمع بالتاريخ وشروط ومقومات نموه وتقدمه وهذا لا يتحقق الا بتطور العلوم الإنسانية والاجتماعية المعنية بدراسة الإنسان وحاجاته ودوافعه ودراسة المجتمع ودينامياته الظاهرة والخفية. ولا تزدهر الحضارة بوصفها القوة التنظيمية في التاريخ سياسة وأخلاقًا وتشريعا معنية بخلق النظام العام الذي يحفظ ويصون حقوق الإنسان الأساسية؛ حق الحياة والعمل والحرية والفكر والاعتقاد والتعبير في إطار القانون سيد الجميع. لا تزدهر الا بازدهار الأدب والفن بوصفهما عنصران اساسيان من عناصر الثقافة المعنية بتنمية الإنسان تنمية ثقافية مستدامة بحسب الذكاءات المتعددة التي يتميز بها الكائن الإنساني( الذكاء الوجداني والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الاجتماعي والذكاء البصري والذكاء الايقاعي الموسيقي والذكاء اللغوي والذكاء العضلي والذكاء الوجودي) ففي ذات كل إنسان طيف واسع من المواهب والقدرات المتعددة التي تستدعي التأهيل والتنمية. وتلك هي وظيفة الثقافة في بوصفها الراسمال الذي يبقى بعد نسيان كل شيءٍ! والراسمال الثقافي هو مجموع المنابت والينابيع والمصادر الثقافية التي ينهل منها الفرد وتتوزع الى العادات والتقاليد والأعراف والسرديات والأساطير والرمز والدين والفنون. كما يفيد جملة المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي وتشكل أحد أدوات التحكم والتوجيه والتأثير في الفرد ويتم مراكمتها عبر الزمن وتمريرها من شخص الى آخر عن طريق المحاكاة والمشاركة والتقليد ويمكن كذلك نقلها من جيل الى آخر عبر آلية اعادة الانتاج واحترام النفوذ.
بناء على ذلك إن الرأسمال الثقافي يحصل عليه المرء بعد مراكمة للتجارب المتنوعة ومثابرة في العمل ويعطيه نوعا من الامتيازات في المجتمع. وحينما يتكرر السلوك يصير عادة وحينما تترسخ العادة تصير ثقافة. ويتوزع الرأسمال الثقافي بحسب بيير بورديو الى ثلاثة عناصر هي شكل متسجد في الهابيتوس الثقافي وتكمن وظيفته في جعل الانسان كائنا اجتماعيا ومشاركا في الفضاء العام، وشكل مموضع في مستوى ثان يتكون من منافع ثقافية وخيرات رمزية مثل الكتب والآثار الفنية والأدوات الرقمية وتتمثل مهمتها في حزن وحفظ العناصر الثقافية، وشكل مؤسساتي في مقام ثالث ويتمثل في العناوين المدرسية والمتاحف والمكتبات ودور الثقافة والمسرح والسينما وتتمثل مهمته في عرضه للمنتوجات الثقافية للفرجة والتقبل والتداول التوزيع والاستعراض والاستهلاك وبالتالي تتحول هذه المؤسسات الى سوق ثقافي. وهكذا يمكن القول أن الناس هو الذين يشكلون ثقافتهم بما يبدعونه من علم وفن وأدب ثم تقوم هي بتشكيلهم بما تحتويه من معرفة وقيم وعادات وافكار وانماط الحياة فهي كل ما نفكر به أو نمتلكه ونمارسه في المجتمع وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها:
1 -التهيؤ: كما هو الحال بالتربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم الإنساني بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.
2- الاستيعاب؛ بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.
3- الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.
4- الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) ذلك هو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار والانتظار.فما هي الثقافة التي شكلتنا؟ وكيف هو حال الثقافة في المجتمعات العربية اليوم؟.
والجواب هو في واقع العلم والفن والآدب. و لاشك بأن هناك علاقة عضوية بين العلم الفن والأدب والثقافة تشبه علاقة الأم بابنائها فالهدف الأساسي من التعليم العلمي والتربية الأدبية والفنية هو خلق الإنسان السوي الحر القادر على مواجهة مشكلات مجتمعه وعصره بروح ايجابية وسعة أفق عقلانية مرنة وخلاقة تمنحه القدرة اللازمة على التعاطي الفعال مع واقعه وهويته وتاريخ مجتمعه وقيمه و تراثه في سياق حاضره و تحدياته المتغيرة باستمرار بما يجعله قادر على بناء مركب ثقافي علمي انساني عقلاني جديد يمزج بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر واستشراف المستقبل. وبذلك تكون الثقافة في جوهرها الإنساني التاريخي الابداعي بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهي فضلا عن ذلك أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية وتهيئة فرص الابتكار والمنافسات والمبادرات الفردية، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والشعور بالهوية والانتماء.والسؤال هو هل يمكن للثقافة بوصفها التطور الدائم المستمر في العلم والفن والأدب أن تزدهر بدون ازدهار الحضارة؟.