- كتب: د. قاسم المحبشي
(في الفلسفة الخالصة أو النقية من الايديولوجيا والعلم والدين) ذلك هو عنوان المحاضرة الندوة التي عقدها المجمع الفلسفي العربي قبل البارحة المرافق ١ أكتوبر ٢٠٢٣م في منصة المجمع. أدارها بكفاءة واقتدار الأستاذ الدكتور إحسان الحيدري، أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد ورئيس المجمع الفلسفي العربي منذ التاسعة حتى الحادية عشر والنصف مساءاً حرصت على حضورها بحافزين:
الأول: براعة العنوان بما حمله من شحنة فكرية مفعمة بالدهشة والاثارة لكل من يعرف الفلسفة ومداراتها الحميمة (فلسفة خالصة أو نقية..)،
عبارة تجعل الشيطان ذاته يتوقف ويتفكر بما فيه من قوة جذب واستفزاز. نعم استفزتني وجعلتني احرص على حضور الندوة رغم إنشغالي..
والحافز الثاني: نابع من أهتمامي بصديقي الدكتور حسام الدين درويش وفكره الفلسفي التجديدي إذ عرفته منذ خمسة سنوات عبر الفضاء الافتراضي وسنحت لي الفرصة أن التقيه مباشرة في الواقع الأرضي؛ مرة في القاهرة ومرة في الإسكندرية وثالثة في جامعة النيل. شخص يضفي حضور قوي حينما يكون بحيوية الحميمة وروحه ألمتسامحة وأفكاره الصادمة وثقافته الواسعة.
ولا غرابة في ذلك فهو سليل المدرسة السورية في الفلسفة العربية.
شدني عنوان المحاضرة بصيغته الصادمة وذلك بعود إلى براعة من صاغه، إذ يشبه صياد ماهر في بحر متلاطم يلقي بسنارته وينشب الخطاف بحلق السمكة منذ أول وهله.. فطالما وقد حلمت بالعثور على فلسفة خالصة ونقية من الشوائب الايديولوجية والمعرفية العالقة وتلك هي الوظيفة التطهيرية لفعل التفلسف. أستهل حسام الدين درويش محاضرته بالسؤال التقليدي ما الفلسفة؟ ولكنه تميز بمقاربته الجديدة للمعضلة.. إذ لم يكرر التعريف المدرسي السطحي لكلمة فلسفة اليونانية التي تتكون من مقطعين فيلو محبة وسوفبا حكمة. بدأ مباشرة بالقول بإن الفلسفة هي: علم البحث في ماهيات الأشياء الأكثر أهمية وحيوية في حياة الكائنات البشرية وهي ثانيا حدوس نابعة من الذات الإنسانية وحجج عقلية في بحث المعنى وهي ثالثا: اجابات مهمة بقدر كونها اسئلة كلية.
نعم يمكن التأكيد مع الاستاذ حسام الدين درويش بان بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وشائج قربى كثيرة فجميعها تبحث في الإنسان وافعاله وانفعالاته وتفاعلاته الاجتماعية إذ تقوم حياة الناس الاجتماعية وتتشكل الجماعات والمجتمعات البشرية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي يتكون من أربعة انساق أساسية(فاعل، فعل، علاقة، بنية) وما ينجم عنها من مظاهر وظواهر وأشكال ورموز وقيم وتمثلات يعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلون الاجتماعيون لحياتهم المتعينة ماديا ومعنويا واقعيا وافتراضيا بمختلف صيغ وصور وأنماط تمظهراتها العلائقية ؛ بين أنا _ أنت ، ذات _ أخر _ نحن _ هم وغير ذلك من اشكال العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال، وهي بذلك تتقاطع مع عدد من مجالات الفعل والانفعال الإنساني العلم والدين والايديولوجيا بل وتشتبك معهم وتلك هي طبيعتها الاصلية النابعة من طبيعة الكائن المفكر.. إذ أن وحدة وتشابك جميع الموضوعات والمعارف والعلوم تنبع من وحدة الواقع الذات العارفة فالواقع واحد للجميع والله واحد والإنسان واحد والعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس وربما اختلف الناس في طرق وأساليب استخدام عقولهم.
يرى المحاضر إن ثمة علاقة اتصال وانفصال بين مختلف مجالات الحياة البشرية واشكال وعيها، إذ أن أحد المصادر الكبرى لقدرات الانسان العقلية والطبيعية ذاتها هي المذاهب الدينية والقانونية في حضارة من الحضارات وأهم هذه المصادر الصورة الميتافيزيقية الأوسع التي تجرى ضمنها أنماط الخطاب وتشكيل في فضائها أهم المفاهيم التي تشكل تصورات الانسان عن نفسه تشكيلاً عميقاً ،فأما أنها تدعم قواه العقلية أوتضيق عليها.. وطالما أن الواقع يتغير ويتجدد باستمرار فمن الضروري للفكر أن يتجدد باستمرار، والفلسفة بوصفها أكثر اشكال الفكر تجريدا هي أولى بالتجديد نظرية ومنهجا.. إذا هي مثلها مثل أنساق المعرفة الانسانية والاجتماعية والطبيعية بحث في مشكلات العالم وتجاوزها. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. لأن هدف الفلسفة هو معرفة الحقيقة من خلال فهم لواقع وتملكه. أداتـها في هذا البحث عن الحقيقة هو هذا الذي نسميه عقلا.. هـذا الذي يسترشد ببوصلة الحدس.
ورغم أن الفلسفة تشترك مع الدين في البحث عن معنى الحياة والموت والخير والشر وأشياء كثيرة جدا إلا أنها منهجيا تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك أسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الإنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال.. ربما كانت مزية الفلسفة وسؤالها الدائم الحضور هي قدرتها على التجاوز المستمر ففي كل عصر من العصور يختار الإنسان نفسه ويوجه تحديدات عصره وزمانه بطريقة مختلفه عن من سبقوه.
وتختلف الفلسفة عن الدين في إن هذا الأخير هو ايمان واعتقاد مقدس واعتراف الإنسان بقوة عليا غير منظورة تتحكم في مصيره ولها عليه حق الطاعة والتبجيل والعبادة، والعنصر الجوهري في الدين التسلطي هو الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان، والفضيلة الأساسية في هذا النمط من الدين هو الطاعة والخطيئة الكبرى هي العصيان، وكما يتصور الإله على أنه شامل القدرة محيط علماً بكل شيء فكذلك يتصور الإنسان على أنه عاجزاً تافه الشأن والدين فضلا عن ذلك يقدم اجابات مكتملة وجاهزة تستدعي الإيمان والتقديس والحمد والشكر والطاعة والقناعة. بينما الفلسفة تختلف عن الدين في كونها الفكر الذي يفكر بمعنى قدرتها على طرح الاسئلة والتشكيك في الإجابات الجاهزة المكتملة باستمرار وتلك هي وظيفتها النابعة من طبيعة العقل ذاته إذ أن السوال هو ” ما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لاكتشاف الحقيقة؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟ بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته “السندبادية لتعقل ” الآخر” أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب” فهذا هو الأمر الذي يجعل من الفلسفة والتفلسف حاجة حيوية لأغنى عنها في الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان بحسب دوديكيز في مقاله المهم نقد أوثان العقل. واذا كان العلم يحدثنا عن ما نعرفه بحسب برتراند رسل فان الفلسفة تعلمنا جهلنا إذ هي النشاط العقلي الوحيد الذي يستدعي الوعي الإنعكاسي بمعنى قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية” وسلوكات” الموضوعات الخارجية” السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري) بحسب مانويل دوديكيز في نقد أوثان العقل.
اغتنمت فرصة المعاصرة التي حركت في نفسي هواجس قديمة بشأن الفلسفة وماذا كانت منهجا للتفكير أم معرفةً للحفظ والتلقين؟
فطلب المداخلة ومن حسن حظي أن رئيس الجلسة منحني الفرصة الأولى لمناقشة المحاضر العزيز الدكتور حسام الدين درويش وإليكم خلاصة فكرتي:
من خبرتي المتواضعة في دراسة الفلسفة وتدريسها وإدارة قسمها لا حظت أن هم مسألة في الدرس الفلسفي هي مسألة تحفيز الأذهان بالاسئلة المتصلة بالذوات المستهدفة كآن نطلب من الطلاب الجواب عن سؤال من أنا أنت ومن هو الإنسان؟ وماذا تعني لك الحياة؟ ومن هو الآخر؟ وما هو العدل والخير والجمال .الخ. أي تدريسهم بروح الفلسفة ذاتها وليس تزويدهم بمعرفة مكتسبة من تاريخ الفلسفة فقط. فماذا يفيدنا قول بارميندس اليونان “الوجود موجود والعدم غير موجودا”؟ أو قول الفارابي” الوجود هو الذي إذا تصورته غير موجودا نجم عن تصورك محال” أو قول هيجل “العقل يحكم العالم” أو قول سارتر “الوجود أسبق من الماهية”كل الأجوبة القديمة جاءت لتشبع أسئلة زمانها..
اليوم لم يعد الوجود هو الوجود الذي أدهش افلاطون بل صار وجودا افتراضيا أكثر منه واقعيا ولم يعد العالم منقسما إلى ما تحت فلك القمر وما فوق فلك القمر بل صار وجودا متصلا، ولم تعد الثنائيات الميتافيزيقية التقليدية قائمة( الذات والموضوع والروح والجسد والفكر والواقع والمادي والروحي والمنطقي والتاريخي الخ) في عالم انكمش في الزمان والمكان وبات شديد التداخل والتواصل والاتصال.. إن الحاجة إلى اكتساب فن التفكير الناقد هي الأهم في تدريس الفلسفة والعلوم الإنسانية والتفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية إذ أن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري والشك المنهجي ونقد الجهل المكابر.
إن الفلسفة اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها ومناهجها واساليب تدريسها بما يجعلها قادرة على استئناف دهشته وقول كلمتها فإذا كانت بوما ميرفا اليونانية تطلق جناحيها للريح مع مقدم الأصيل بحسب هيجل ويقصد أن الفلسفة لا تحضر إلا في آخر النهار بعد اكمال مسار العالم لتتعقله وتمنحه المعنى فإنها اليوم مدعوة للاستيقاظ منذ بزوغ الفجر لترى ما يحدث في عالم سريع الايقاع والتغيير.
فالأمس غير اليوم وغدًا غير الأمس، وحوادث الزمان والناس والمعرفة هي جديدة وفريدة ونوعية في كل لحظة من لحظات السيرورة التاريخية، ونحن نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياتها ونتدبر أمرنا في كيفية تجاوزها وأما سحقتنا بعجلاتها وتجاوزتنا.. ولا شيء يأتي إلى التاريخ من خارجه ولا شيء يخرج منه. التاريخ هو التاريخ يمضي إلى سبيله من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وليس بمقدور أحد إيقافه.. إن تجديد الفلسفة يعني فيما يعنيه تجديد أسئلتها وطرق نظرها واساليب تدريسها بروح فلسفية جديدة.
هذا ما تيسر من أطياف محاضرة الدكتور حسام الدين درويش مع خالص الشكر والتقدير للمجمع الفلسفي العربي ورئيسه دكتور إحسان الحيدري.