- كتب: محيي الدين جرمة
كاتب يمني
كيفية الولوج إلى عالم الروائية العراقية ميسلون فاخر، مفهوم سردي خاص،بمختبر مشغلها بالكتابة، رغم ان تجربتها الروائية، قد لاتجاوز العقد من السنوات، على صدور روايتها الأولى( رائحة الكافور) اذ الموت، رمزية، وتيمة، إلى جانب الحب،وفن الرسم والنحت، وعالم المثال.
وهنا فعالمها، هو عالم شخصياتها، بصورة أو باخرى، لكنها شخصيات منعتقة عن سمة، السير ذاتي، بشطح مكين، من غواية الكتابة والحكي، وجمالية اللغة، والاسلوب، وحبكة السرد، حيث يتعين في أحايين أن يقترب من عوالمها قارئ، ذكي، وحذر، معا، قارئ، تحقنه حساسية المعنى المضمر، في ثنايا الحكاية، والدرس المئول في لاتوقعات زمن الحدث، وتوقعات الترحال في الأمكنة، وأزمنة الهجرة السائلة في مجرى السرود وانهر مصباتها، وفي ما سيعقب هذا الفصل، أو ذلك المشهد، من ترقبات، واحالات، وترحال، واقامة، وربط، وبعثرة، وتوتر، وصقيع موجع..الخ.
“عالمي البارد تصل درجة حرارته إلى عشرين تحت الصفر، عالم صقيعي أبيض يحاصر غرفتي ويمنع أشعة الشمس من مداعبة وجنتيَّ، وهدَّد كل سعادة طفولتي وانقضَّ عليها”.
هكذا تكثف ميسلون فاخر المجال الحيزي لبنية عالمها السردي في لغة شتائية قاطعة حادة، تقسو بقدر ما تلين، تبعثر، بقدر ما تلملم أشتات البعيد والقرب، معا،
لكنها لغة تميل إلى شعرية المفارقة، لغة سلسة وكاشفة صريحة، كغموض واضح، لكن دون أن تصرح بذلك تقريرا، بل أن عوالم زهرة الثلجية، قد لاتطاق، لكائن، من الاحساس المحض، أن يعيش في أجواء تمثلاته، حتى وهي تنحت من جماليات الألم، ألواحا، في حديقة مشتهاة..
لغة السرد بذاتها “شخصية” تبدو في انتقاء أسلوبي، يتوافق مع شخصية “زهرة” واندماجها في تناقضات البوح المقيم، في الضلوع، حيث تقترح لجل رواياتها شخصيات مختلجة في بنية الحدث وتجعلها تنبض، تختار لتفسها حرة: دورا يتناسب، و نزوعها الوصفي الزاهد والمتقشف، في الكلام..
لكن ما هي الفوضى التي تعشعش في مسام رواية “زهرة” وهي روايتها الرابعة، في النضج والتجربة، بينما تحلم بوطن في شكل صباح ندي بنخيل العراقي الموجوع، ومفارقات عدة؟!.
تحكي زهرة التي ترتدي هويتها السويدية ولادة وثقافة، فتشخص عالمها في سياق من الرواية: “إنها فوضى عارمة حين أحالَني إلى جزء لا يتجزأ من أثاث البيت الفخم، أو مثل حيوان داجن من حيوانات كايسا، كانت حمولتي زائدة منذ تلك الليلة وتحولتْ إلى اضطراب مزمن وقلق شديد وخوف من الآخر”.
من صفحة بيضاء، تستهل الكاتبة، تصدير الاهداء”إلى روح أمي” ترافق العين قائمتا بياض ونصوع غزير، يشي بالتحليق ممهدا للرؤية والتشوف البصري المستكشف ثنايا الحروف ومستورها، نحو الولوج إلى استهلال الرواية الصلد، والذي يبدأ بطريقة بعبارة كثيفة وملمومة: “بعض الأسئلة إما مدببة، وإما حادة” ص 5.
نمضي مع الرواية: حيث التشخيص السيكلوجي يجعل من حركة الشخصية افقا نحوه تتجه فكرة النهاية، كما تترك العراقية ميسلون فاخر في روايتها الجديدة “زهرة” شخصية البطلة، عبر توأمتها مع “سارا” حينا، وأحايين تحمل مصائرها على عاتق هواجسها التي تعتريها كما سبق ذلك توأمة الشخصية في روايتها “صالصال امراتين”بين ثنائية” وطن / منفى، مغترب، لجوء، نزوح، مفردات بأقنعة شتى، لها محمولها الثقافي، غير أن مصائر البطلة “الشخصية في “زهرة” تتفجر عبر.. فعل اللغة، والحدث، والوصف الكثيف الذي يعطي للجملة، حدا في ما لايحد من تفسيرات التلقي وشغفه، وكذلك عبر خيار الحرية، ومنطق التساؤل..
من هنا تأتي حركة اللغة السائلة، كخطاب فاعل،منفعل: داخل مستويات اللفظي، وخيوط الحكاية، فالكاتبة لاتتدخل في أي مجرى من مجريات الحدث وأمكنته، وتناقضات الشخصية فيه، إلا بقدر ما تتساوق، وتتفارق، لتندمج بلغة الحكاية وأبعاد النزوح أو الاغتراب كنتيجة للحياة، وهدف مطلبي للعيش..
تمزج لغة الشخصية الروائية، عناصر السرد لتزاوج بين الخطاب للراوية بالمجمل في المتن، وبين المروي، له، ووظائف الضمائر، في أحوال، الاستطراد، والتوقف حينا، عند دلالة الحوار داخل الفن، كما تنضفر بقية عناصر السرد الأخرى في عنقودية معاني متداعية، لتتشابك المصائر والأمكنة نتيجة تسلسل السرد وانبثاقاته، وتجاوره، مع جوانب من الوصف لا تثقل سير الحدث وسياقاته، ولكن ارتباط الجملة السردية في”زهرة” ينتظم كجزء من كل على امتداد خيط وبوح الشخصية وامتثالاتها لمعابر مرور المحكي، وانسيابيته طوال صفحات الرواية، دونما شعور بملل، أو خيبة أمل ما.
ولتعيين طبيعة الفضاء السردي والحيزي الذي تتحرك فيه الشخصية وبقية الشخصيات الثانوية والمساعدة، نجد أن الأمكنة تأخذ طابع الهجرة والترحال، المغترب في همومه، ووجعه المشطور إلى جهات عدة، بين حلم الاستقرار، وطمأنينة الوطن البديل أو المؤقت، والذي ليس ورديا كما قد يتصور البعض.
إن مشاعر “زهرة”ووهي تتوزع بين الحلم في المنفى الاختياري، التي تجد ذاتها معجونة في خضمه وتفاصيله، وبين الأذى النفسي الذي تشعر جراءه بقسوة النظم واللوائح أو بعضها في المكان البعيد عن العراق: قد يبدو آمنا للمقيم فيه، في حين أن انبعاثات الاغتراب الداخلي للذات الساردة تتخالف همومها، وسط دراما الأفكار والآلام ونبتة الطموح الذي يعتريها للفكاك من عتام اللحظات الحلمية التي تصطدم غالبيا بواقعية المهاجر، وضرام نيرانها التي تكاد توازي في دروب السرد وعزلاته، صراعات موازية تحتدم في داخل الذات المشطورة، بين الوطن الاصلي، وأمكنة الشتات، في حين لا تختلف في الشكل والصورة أو تكاد، إلا قليلا.
في الان ذاته: تتقاطع طرق التفكير، والسلوكات، لدى كل من “زهرة، أندش، سارا، كايسا. فاتن، ووليدها “دودي”، للتتفارق من خلال شخصياته “ذواتهم” الأحداث وتتقاطع في تصاعدها الدرامي، لتأخذ انحناءات وصدمات في انكسار مشاعر الذات المشتركة بينهم والعيش في بيئة واحدة، أو بيئات ثقافية مختلفة، ليزداد التوتر والتفجع بإخفاء قسري للوليد، الطفل، ومحاولة ابعاده عن أمه، في الوقت الذي تلتمع فيه بؤر الذاكرة في سياق استرجاعات: لمواقف مشابهة عايشتها الشخصية الرئيسة “زهرة”، في طفولتها، وهو ما يجعل من خيار الاندماج وتناقض المعيوش والاحساس في موطن الهجرة مهزوزا وغير قابل للثبات المستقر بالمطلق، كوطن حضاري وإرث آمن من القيم لمواطنيه، كما في تصور الآخر عنه، عبر حكاية تأثيث أحلام الذوات النازحة إليه، بقدر ما تصور الرواية بقاء جرح الهوية مفتوحا لتفسيرات عدة تشي بمعاناة الشخصيات بمستوياتها وموازين ثقافاتها المحلية والمتمسكة بجذر ما يشدها إلى أشجار بعيدة، تحت ظلال حضارة “اكد وسومر” والنخيل، وأرض المسلات، وزهرة ” ايثاكا” واكاسيا، شمس الشرق الدافئة.
وبين الثقافة المكتسبة بالعيش والسلوكات، والتي وإن بدا انصهارها ظاهريا في مجتمع أو محيط أوروبي شمالي أو جنوبي، أو فضاء منفتح بثقافة متغايرة له، إلا أن العزلة النفسية المتوارية تضع الشخصية بين خيارات أحلاها مر، تلتقي فيها مصائر وادواء، وحينا بصيص انفراجات، لكنها تشبه زنازين تقبع في النفس، حتى لو بدت متنزهة على ضفاف الانهار، ومساقط السعادة، ومنافس الترويح والترفيه المجتمعي هنا أو هناك. .. الخ.
ومهما بعدت الذات الساردة، عن تربتها الأصلية، وعن تربة ولادة الأب والأم، تظل معيوشاتها في مغتربات، وأحلام، كنهدات ملازمة، وأوجاع وترجيعات لصدى الألم، لا تنفك تخيط بميسمها غصص الجرح المسافر المتمثل”العراق” في أدق تفاصيل حلم العابرين، أو العائدين منه والراحلين عنه إلى مناف لهم، اضطرارية، لكنها تكتسي حلة الفرح وبسطة الأحلام، والحقوق المادية، والنفسية الكاملة، لساكنيها من غير المقيمين.