- كتب: د. قاسم المحبشي
شور، أشار، استشارة، بمعنى تأمل وفكّر وتسأل وتبادل الرأي تلك هي الوظيفة الجوهرية للفلسفة بوصفها الفكر الذي يفكر إذ هي مشاورة العقل لذاته وبذاته وتشاوره مع العالم وأسئلته ومشكلاته فهي حوار دائم بين الذات والواقع وبين الشعوب والثقافات وبين الأفكار والموضوعات أنها قدرة العقل المفكر على المزاوجة بين تأمل وملاحظة العالم وظواهره وسلوكيات موضوعاته وملاحظته لسلوكاته الذاتية ووعيها وتلك هي منهجية الوعي الانعكاسي التي تتعين في مراوحة العقل بين إدراك العالم الخارجي وموضوعاته المشخصة في مختلف الظواهر وتجريدها وتمثلها رمزيا في الذات الواعية والسؤال هو بما أن الفلسفة هي نشاط العقل الذي يتعقل العالم ويعقل ذاته، فما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لفهم العالم واكتشاف حقائقه؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟ بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته “السندبادية لتعقل ” الآخر” أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب” فإن الحاجة إلى نقد أوثان العقل وأوهامه هي حاجة حيوية ودائمة وذلك ينجم من طبيعة العقل ذاته فهو ليس مهجعا مهجورا لتخزين المعرفة والمفاهيم كما هو حال مخازن الأشياء والنقود والمجوهرات والبضائع. ومن الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من أعضاء الجسم إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أو الدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح إذا كلنا يعلم علم اليقين بان ليس هناك شيئا ملموسا محسوسا اسمه العقل ، يمكن رؤيته ولمسه بالحواس المجردة؛ العقل مفهوم مجرد يطلق على ممارسة عملية التفكير المستمرة الذي يباشره الإنسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية. وبهذا المعنى كانت الفلسفة ومازالت معنية بالاستشارة الدائمة وإعادة تأمل العالم المتغير والمتجدد باستمرار وطالما أن الواقع يتغير ويتجدد باستمرار فمن الضروري للفكر أن يتجدد باستمرار.
والفلسفة بوصفها أكثر إشكال الفكر تجريدا هي أولى بالتجديد نظرية ومنهجا. إذا هي مثلها مثل أنساق المعرفة الإنسانية والاجتماعية والطبيعية بحث في مشكلات العالم وتجاوزها. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم. فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك أسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الإنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال.
في ذلك السياق ستكون مقاربتنا لموضوعنا انطلاقا من الفرضية التالي:
تنطلق فكرة الاستشارة الفلسفية من فرضية؛ أن الأفكار والمعتقدات تؤثر في سلوك الناس. فالناس يسلكون وفقا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت جماعة من الجماعات بأن ما تراه وتقوله وتعتقده هو الحقيقة وما عداها باطلا فليس ثمة قوة في العالم يمكن أن تجبرها على تغيير معتقدها. وإذا أعتقدت أن الناس أشرارا ويضمرون لك الحقد والانتقام فمن المؤكد بإن علاقاته بالمجتمع ستضطرب. وإذا اعتقدت أنك تعرف كل شيء ولا تحتاج إلى معرفة المزيد فمن المؤكد بإنك ستكف عن القراءة والتفكير. وإذا أعتقدت بأنك أفضل خلق الله فمن المؤكد بإنك سوف تحتقر الآخرين. وإذا اعتقدت أن النساء يجلبن النحس والهلاك فمن المؤكد بإنك لن تفكر بالزواج. وإذا أعتقدت أن هذا العالم مسكون بالجن والشياطين فلن تجرؤ على الخروج من منزلك.وإذا أعتقدت بأن بيتك مسكون بالأرواح الشريرة فلن تستطيع النوم فيه، وإذا أعتقدت أنك المدافع الأمين عن دين رب العالمين فسوف ترى بكل من يخالف أعتقادك كفرة وشياطين ومأواهم النار وبؤس المصير! وإذا أعتقدت أن الناس في ضلال عظيم وأنك معني بهدايتهم إلى الطريق القويم فأمامك خيارين؛ الأول هو إقناعهم بالتي هي أحسن وجعل من ذاتك مثلا اعلى للصدق والاستقامة والأمانة والزهد والتواضع والصبر والشفقة والرحمة والتسامح والعدالة والرحابة وكل القيم الفاضلة الجاذبة للناس لجعلهم يقتدون فيك. والثاني؛ أن تشحذ سيفك وتعلن الجهاد تحت أي رأيه تحبها حتى تتمكن من جعل الجبناء من الناس يؤمنون وهو صاغرون لكنهم غير مقتنعين ويتحينون الفرصة للثأر والانتقام وهكذا تتغذى الحروب والأيديولوجية من داخل دائرتها المغلقة. هذا في مجال الاعتقادات والاراء والأفكار التي لا تحتمل القياس والبرهان التجريبي ، أما في العلم والمعرفة العلمية فالحقائق موضوعية ومحايدة ومختبرة ومجربة في عالم الممارسة والمشاهدة بالاستقراء المباشر. فالقول بإن كل الغربان سوداء، يمكن أبطاله إذا ما أكتشفنا إن بعض الغربان بيضاء. والقول: إن كل البشر حيونات عاقلة ، لا يمتلك قوة الحقيقة العلمية طالما وأن الكثير من البشر لا يتصرفون بحسب معايير العقل والحس السليم. وهكذا هو الحال دائما مع الناس والمعتقدات والأفكار. وكما هو الحال في الطب النفسي المعني بعلاج اختلالات نفوس الأفراد وما يصيبها من علل القلق والفصام والاكتئاب والوسواس والرهاب والهستيريا وغيرها فكذلك تضطلع الفلسفة بعلاج اختلالات العقل واضطرابات التفكير فعلى الرغم من أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس بحسب ديكارت إلا أن الاختلافات بينهم تكمن في طريقة استخدام عقولهم في التعامل مع واقعهم. وقد بينت الدراسات الميدانية أن كثير من الممارسات والسلوكيات التي يسلكها الناس ليست عقلانية بالضرورة إذ أكدت نظرية التحليل النفسي بإن الذات الإنسانية تشتمل على ثلاثة عناصر الأنا والهو والهي. الأنا الواعية المحكومة بمبدا الواقع والهو الغريزة المحكومة بمبدا اللذة الليبدو بحسب فرويد والأنا الاعلى المحكوم بالضمير والإيمان الديني والقيم الاجتماعية. وربما كان افلاطون في اسطورة الكهف هو أول فيلسوف يكشف أثر الحياة والعلاقات الاجتماعية في سلوك الإنسان المندمج في مجتمعه والمتكيف مع واقعه الذي وجد ذاته فيه وهذا ما يسمى القصور الذاتي يتجلى في مقاومة تغيير الأفكار المالوفة والاكتفاء بالتصورات والمعتقدات المورثة والمتناقلة عبر الأجيال منذ آلاف السنين بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والتعليم والثقافة والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. وهذا هو ما يسميه بيير بورديو ب هابيتوس. ورغم أن الانسان كائنا عاقلا إلا انه يقوم التفكير كما تقاوم القرود السير على قدمين إذ أن التفكير العقلي هو ممارسة تستدعي الحيرة والقلق والتوتر والشك والتساؤل فقد يعيش الناس الالف السنين في إطار عطالتهم الثقافية والسيكولوجية دون التساؤل عن معناها. وفي الذات الإنسانية آليات دفاع سيكولوجية أو استراتيجيات نفسية يستخدمها العقل الباطن لحماية الفرد من التوتر الناجم عن الأفكار أو المشاعر التي تجلب القلق والحيرة. ومنها: 1-الكبت أو القمع محاولة دفن أو إخفاء الأحاسيس أو الأفكار المؤلمة من وعى الإنسان، وهذه الأحاسيس أو الأفكار بدورها قد تعود لتظهر علي السطح بصورة رمزية. 2-التماهي(التوحد) وهو إدماج موضوع أو فكرة أو التوحد والتقارب اللاواعي مع الأشخاص الذين يحملون نفس الأفكار. 3-التبرير وهو محاولة إيجاد سبب منطقى للسلوكيات أو الدوافع عن طريق اعطاؤها مبررات أو أسباب مقبولة، وبصفة عامة فإن القمع(الكبت) يعتبر الأساس أو القاعدة التي تنبع منها معظم الآليات الدفاعية الأخرى. ويمكن تعميم قانون القصور الذاتي على مختلف الظواهر الاجتماعية والثقافية فالميل إلى مقاومة التغيير هو ميل عام عند المجتمعات البشرية مبعثه الحفاظ على العادات والتقاليد والخوف من المجهول.وقد رصد فرانسيس بيكون أربعة أوهام تصيب العقل هي: أوهام القبيلة” تتصل بالطبيعية البشرية بوصفها مقياسا لجميع الأشياء. ومن ثم فأفكارنا هي صور عن أنفسنا أكثر من كونها صور للأشياء. ومن طبيعة الفهم الإنساني أنه يفرض في الأشياء التشابه أكبر مما يجده فيها.اختلاف. وأوهام المسرح: ومصدرها السلطة المعنوية للشخصيات الشهيرة أو سلطة المعتقدات القديمة…. وتتمثل هذه الأوهام في الحالة التي نقوم فيها بالاعتقاد من دون وعي بشيء ما فقط لأن قائله فلان أو أن يتحول رأي فلان إلى حجة غير قابلة للنقد أو التشكيك… لذلك سماها بيكون أوهام المسرح لأنها تتربع على خشبة مسرح الأفكار بوصفها نماذجا مقدسة ممثلة للحق والحقيقة المطلقة على غرار أن المثل السائر: الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف!.
وأوهام الكهف إذ أن كل ذات إنسانية ترى الأشياء بعين طبعها وطبيعتها بحسب قدرتها على الفهم والإدراك والمزاج. بعض العقول مثلًا تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تركيبية تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء. وبعض العقول تميل كثيرًا إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تحتضن بحماس كل أمرًا جديد، والقليل منها تستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الأقدمون من أمور صحيحة ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة، لأن الحقيقة لا تعرف تحيزًا أو تحزبًا.
والطائفة الرابعة من الأوهام هي: أوهام السوق؛ سوق الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها الرمزية لأن الناس يخاطبون بعضهم بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقلية أهل السوق والعامة. حيث ينشأ عن سوء تكوين هذهِ الكلمات وعدم موافقتها تعطيل شديد للعقل. فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العملية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة بالفعل، أو غامضة أو متناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات فتدور كلها على مجرد ألفاظ.هذه الأوهام هي تصيب كل الذوات البشرية بهذا القدر أو ذاك. فضلا عن الأوهام الأخرى التي منها؛ المبالغة والكذب والاشاعة والتهويل والتهوين والتعصب والتمييز والاحتقار أو التقديس والإجلال. وتلك حالة طبيعية للذات الإنسانية العاقلة إذ أن العقل البشري وهو يحاول التعرف على ما حوله من ظواهر العالم لا يعود كما ذهب بل يرجع محملا بالحقائق والأوهام والأصنام والأوثان في كل زمان ومكان. تلك البنية الصنمية الوثنية للعقل الإنساني ظلت ترافق الإنسان مثل ظله بتنويعات لا حصر لها من عبادة الطواطم ثم الأوثان والأصنام وارواح الموتى إلى أن هداه إلى إلى التجريد فجردها في التوحيد المتعالي للوجوس والخير الأسمى والمحرك الذي لا يتحرك والخالق البارع المصمم الأوحد الذي إذ تصوره غير موجودًا نجم عن تصورك محال.
فهدمت الأوثان والأصنام والأوهام وبقي الواحد الحق الذي ليس مثله شيئا. فكيف يمكن علاجها؟ تلك هي وظيفة الفلسفة بوصفها تطهيرا دائما للعقل من الأوهام والأوثان وذلك عبر السؤال والشك والتجاوز إذ تعد الفلسفة بما هي طريقة متميزة في ممارسة التفكير وإنتاج المعرفة واحدة من أهم مصادر وأدوات الفهم والتنوير إذ يشهد تاريخ الافكار بان حضور الخطاب الفلسفي الأصيل حيثما وجد عبر التاريخ كان الشرط الرئيس لنمو وتفتح وازدهار المعرفة العلمية والأفكار الخلاقة التي ابدعت اخصب وانضج المفاهيم الاساسية في تاريخ المعرفة البشرية. لقد كانت الفلسفة لدى اليونان( ومازالت) هي الباثوث pathos، أي الاحساس الانفعالي المفرط الذي يحرك الانسان اندهاشاً نحو التساؤل الحر وكشف المعاني العميقة للحياة. الدهشة لا تأتي إلَّا في لحظة اغتراب الكائن، إذ تجعله يرى العالم عن بُعْد بعكس القرب المُدْمَج، فأكثر الأشياء قُرْبًا مِنَّا هي أكثرها بُعْدًا عن فهمنا! فالغارق بالبحر لا يراه والغاطس في الغابة لا يراها، وكلما ابتعدنا مسافة عن الأشياء التي تغرقنا كلما استطعنا رؤيتها بوضوح أكثر وتمكنَّا من تقيمها وتقديرها كما هي عليه بالواقع لا كما نُحبُّها أن تكون! لذا قيل إنَّ الحُبَّ أعمى! لأنَّ المُحبِّين يقتربون من بعضهم حَدَّ الالتصاق والتوحُّد بما يجعلهم عميانًا عن رؤية بعضهم واكتشاف المميزات والعيوب.البعد يكشف والقرب يعمي. إنَّنا نحتاج إلى الفلسفة لكي نستطيع رؤية الاشياء التي نعيشها كل لحظة في حياتنا بحسب (روسو).وبهذا المعنى تظل الفلسفة هي حكمة العقل الذي يعرف حدود علمه وجهله. ومفتاح الحكمة هو الاعتراف بالجهل، وحينما يعتقد المرء بإنه مكتفي بما لديه من معرفة فأعلم أنه يعاني من فقدان ملكتي الحلم والحكمة وهكذا سُمي سقراط بحكيم أثينا لانه الوحيد الذي فهم الرمز الذي نطقت بِه عرافة دلفي إذ قال يومها: (لعلها اختارتني لانني الوحيد الذي اعرف بانني لا اعرف شيئاً) بهذه الحكمة الخالدة عرّف سقراط فضيلة الفلسفة التي تعلمنا جهلنا! وهذا هو فحوى حكاية الحكيم الياباني مع تلميذه الجديد إذ جاء فيها: ذهب أحد المريدين إلى شيخ بوذي من معلمي يوغا الزّن في طوكيو فاستقبله الشيخ بابريق الشاي فأخذ يسكب إلى الكوب الذي وضعه أمام الضيف بدون توقف حتى فاض الشاي على الطاولة، فصرخ المريد ماهذا أيها المعلم توقف الكأس ممتلىء، فابتسم الشيخ قائلا: هذا هو الدرس الأول يا فتى، الكأس الممتلىء لايتسع لشيء اخر غير ما فيه وكذلك هو العقل الذي لا يشعر بالجهل وبالحاجة إلى المعرفة لا سبيل إلى تعليمه.
وبهذا نلخص إلى أن الفلسفة تقوم بوظيفة مزدوجة؛ وظيفة الفهم العقلاني للعالم ووظيفة التطهير الذاتي للعقل الذي يتعقل العالم.