- كتب: أنور العنسي
تكاد الكتب والموسوعات المجلدة، والمكتبات الورقية الكبرى تخسر اليوم معركتها أمام أجهزة صغيرة محمولة كالهواتف الذكية والألواح الإلكترونية الخفيفة (الآيباد) والحواسيب التي أصبحت أشبه بأذرع إخطبوطية لشركات عابرة للحدود يمكنك العمل فيها من أي مكان على هذا الكوكب، سابحاً في فضاءٍ لا متناهٍ ، إسمه (الإنترنت).
ذلك هو ما كان متوقعاً قبل نحو ثلاثين سنةً تقريباً، بعدما أصبحت التكنولوجيا وسيلة لإنتاج المعرفة ونشرها على أوسع نطاق بأسرع محركات البحث العملاقة (جوجل، ياهو، بينغ) وغيرها.
المذهل اليوم أن التكنولوجيا لم تعد وسيلةً في خدمة المعرفة، بل العكس هو الصحيح .. التكنولوجيا هي من تصنع المعرفة بطريقةٍ يتعذر تخيُّلها.
ما هو أكثر إثارةً للذهول هو الذكاء الاصطناعي الذي صار بوسعه أن يضع أمامك في غضون ثوان بحثاً في معظم الموضوعات، وإلى درجة إعداد أطروحات دكتوراة في دقائق محدودة.
بعد أن كان التحدي بالأمس هو في كيفية تطوير التكنولوجيا لخدمة العقل، غدت هذه التكنولوجيا هي من تقوم بتشكيل العقل لا خدمته.
أي أن التحدي اليوم بات يكمن في الحاجة إلى أنْسَنَة التكنولوجيا، واستعادة قدرة العقل البشري على التحكم بها لا أن تتحكم به إلى درجة إلغاء وظيفته.
منذ أعوام توقع (إيلون ماسك) أن التكنولوجيا ستخرج عن سيطرة الإنسان بما في ذلك الحكومات والدول .. شركات التكنولوجيا، والمؤسسات المعنية بالمعلوماتية.
أخطر ما ينذر به التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي أمران .. هما الأتْمَتَة الرَّقْمَنة.
الأولى أنتجت (الروبوت) الذي تم إحلاله في عدد من كبريات المصانع والشركات محل ملايين من البشر الذين تم الاستغناء عنهم بعدما أصبح بوسع الروبوت القيام بأكثر المهام تعقيداً، إبتداءً من إنتاج السيارات، مروراً بصناعة الساعات الدقيقة ، وليس انتهاءً بإجراء أدق العمليات الجراحية.
من العجائب المريبة كان قيام شركات كبرى باستغلال أزمة كورونا للتخلص من البشر، والاستعاضة عنهم بواسطة الرجل الآلي محلهم.
الرقمنة
هي الأخطر .. صحيح أنها في مجال المعاملات المدنية العامة تجعل العامل عليها، في حال كان روبوتاً، في حالة من الحياد، يتعامل مع البيانات بحياد.
لكن أخطر ما يكمن في خطورتها أنها لا تلغي فقط دور البشر في حقول العمل والإنتاج بل تهدد بعزل البشر تدريجياً عن بعضهم البعض حيث صار أغلب المؤتمرات والندوات يتم عبر خدمة (الزووم) التي توفر عناء ونفقات السفر بين مختلف البلدان والقارات.
كما بدأ كثير من بلدان العالم المتقدم يجعل من بعض البرامج المطورة بديلاً عن الطبيب والمحامي وغيرهما لتقديم النصائح الطبية وحتى تشخيص المرض وتحديد العلاج وإرساله إلى المنزل.
كما بات بالإمكان تقديم النصائح والفتاوى القانونية وحتى إرشاد المتقدم إلى المحكمة المختصة لتقديم شكواه مرفقةً بالوثائق والمستندات وشهادات الشهود ، وبالتالي الحصول على حكمٍ نافذٍ وملزمٍ لكل الجهات المعنية دون الحاجة إلى الوقوف أمام قاضٍ في محكمة.
إذاً ، فقبل فوات الآوان، لابد من تحركٍ عالمي جادٍ وسريعٍ لكبح جماح هذا التطور بما يؤدي إلى علاقة متوازنة بين الإنسان وحاجته إلى تكنولوجيا نافعة لا مدمرة، أصبحت بتدرجٍ سريعٍ تلغي طاقاته الجسدية والعقلية، وتجعل من (الإنسان) مجرد حيوانٍ مستهلك وغير منتج، معزولاً ، عابداً لتطبيقات جهاز الهاتف الذكي القابع بين يديه، يملي عليه بماذا يجب عليه أن يفكر ويأكل ويشرب ، ويحب ويكره!