- بقلم: محمد علي اللوزي
لم يعد ثمّة نجومية، ولم يعد ثمّة احتكار في عالمٍ اتسعت خارطته من القطرية إلى الكونية، وصار مليئًا بأصناف المبدعين والمفكرين والعمالقة الذين لا يُعدّون.
وحده الفضاء (السيبرنطيقي) كسر التابو، وقهر الرموز، وفتح فضاءه الذي يروي المتلقي كيف يشاء، وأنتج المعرفة اللامحدودة، والمكتبة اللامنتهية، والمعلومة المتجددة.
لم يعد هناك من ألقاب وأستاذية تتعالى على المعرفي، وتتبختر عليه، وتتقن فن الهيمنة.
العالم المتسع اللامحدود بديلٌ للفردية والتفرد. سلطة التكنولوجيا وحدها من يثرينا ويمنحنا ما نرغب.
لننتقل من التسلط إلى السلطة، من التفرد إلى التدفق.
لا شيء اليوم يمكنه الاختباء هناك دوننا.
فالعالم متفتح ومفتوح، يفضي إلى ما نريد.
علينا إذًا أن نحتفي بالمعرفي، من استحضارنا الآخر بسهولة ويسر، ودونما ممانعة، أو جعل الحرف وما بعد الحرف أشبه بسلعة تُتناوَل خارج عنّا، وبرغبة الممتلك لها الأناني في تشكيلها، المدّعي أنه وحده الأقدر في المنغلق (الدوغما).
هكذا يتلاشى الرمز، وتنهار قلاع المحدود باللامحدود، ونطل على “الهناك” لنكتشف “النحن”، ونعرف بالضبط مقدار عطائنا المتواضع جدًّا أمام تدفّق هائل من الإبداع اليومي، وأمام تقنية ترسّخ في أعماقنا تكوينات تجد العديد من المتقدّمين دونما استئذان أو تبجيل، واقتصار على “الهو” فقط.
فيما التكوينات التي تتموضع قريبة المنال منّا جميعًا، وتقبل بالوافد، بالمتلقي، تعيره ذاتها… تريده معها.
هكذا العالم اليوم: غير القاهر، المستحوذ، الناشر البسيط، أو الكاتب الذي يجود علينا ونشكر مساعيه.
لا شك في المعرفي نجد فضاءات العالم الجديد، وغزارة القادم، وتنوع جغرافيا الأسماء والألقاب، لدرجة أنها تذوب، ليبقى النص وحده، وقدرته على التمكن فينا، وجعله مشاعًا، يأتي إليه المتلقي بكل مستوياته، من الأمي إلى المفكر.
سلطة المعرفة اليوم في المتناول، لا تحتاج أن نتوجّس أو نشعر بخيبة فينا، أو نتمنى أن نصل إلى نصّ ما أو كتاب لمؤلف ما.
تلاشت الحدود وذابت الأسماء، وبقي العالم بفضائه الكبير يقدّم ما نريده، وما لا نريده يغزونا رغمًا عنّا، يتناولنا كما نتناوله، دونما سابق معرفة.
سلطة التقنية، عالم الاتصال، تمكّن من تكوين معرفته، جعلها مشاعة، وتغري كثيرًا بالتعايش معها.
انهار سقف القديم: سقف الآباء والمبرّزون والأعلام، وما جاذبه اللاحق على السبق من تمايز.
وبرزت فضاءات العالم الجديد، دونما ألقاب، أو ادّعاء، أو تراتبية فجّة.
في العالم الواسع، في الكوكبية: لا تمايز، لا ادّعاء، ولا ارتهان.
المعرفة… إمّا أن تخوضها بيسر وسهولة وتمكّنها منك كما هي تمكّنك، أو تندثر، تصير ذكرى إنسان، وذكرى مجتمع، وذكرى نص.
هكذا الكوكبي يتألق بسخاء على ما دونه، ويهزأ بالمتمترس خلف ظنونه كذاتٍ متوحشة تدّعي الفرادة وتدعو إليها.
اليوم، ما هو متاح ليس سوى التلقّي بلا وجل وخوف، وبتسابق من أجلنا، كي نتزود ونمنحنا ما نريد، بتنوع أسلوب وتعدّد لغات ومعاني، تتقارب معنا، وتنبذنا، وتقصينا، وتحتفي بنا، وتمنحنا عافية الفكرة وسلامة المعنى، كما تُرهقنا.
هكذا العالم اللامحدود، جغرافيا من التشكّل المستمر، لا تقف عند حد، وترفض الحدود والحواجز والقطيعة حتى.
كونها انطلاقة متاحة لنا، نطوفها وندخلها، ونرانا كذوات بشرية تدرك بالضبط أين هي، في هذا المتزاحم معرفيًا، وقد تُصاب بوجع حين تفقه حدودها وتجربتها المتواضعة، مهما حازت على اللقب، أو تميزت، أو وصلت إلى معارج المرجعية.
ولا مرجعية في عالم اليوم المعلوماتي.
لا أحد يمكنه ذلك.
مرجعية المعرفة اليوم هي في متناولنا جميعًا.
هي الكل، في فضاء هائل يتدفّق في كل لحظة بالجديد، وجديد المعرفة يكمن في ذاتها، في إيقاعها السريع جدًّا علينا، لدرجة تنعدم قدرتنا على المتابعة، ونظلّ قطرةً من مطر غزير.
هكذا علينا أن ندرك نحن من خلال الهم، أن نكتشف القادم في تلاحقه وتلاقحه بنا، في قدرتنا على التفاعل معه – إن استطعنا – قبل أن تذرونا رياح العولمة التي تطالنا رغمًا عنّا، ونحن في رفض وجمود وادّعاء قدرة على كبحها، وهي علم ومعرفة واتصال كوكبي، لا نستطيع لجمه، ونخافه، ونموت فيه اختناقًا، حين لا نقبل التواصل القهري، أردنا أم لم نرد.
السؤال: كيف نحوله بكياسة من أجلنا، بدلًا من خوفٍ نضيع فيه، ونمضي في رغبة رموز وسلطة مؤلف وتسلّط كاتب؟
فيما التكنولوجيا تقول لك: أنا قريب منك، في متناولك، أريدك تفتّحًا، وتريدني غباءً.
سلطة اليوم لا تحتفي، وترفض الإقصاء، وتتمرد على المألوف، القار، الجامد.
فلم تعد الكتابة (الهيروغليفية)، ولا (المسند السبئي) هوية تُحدّد مجتمعًا وتُميّزه.
كما إنها ليست حدودًا جغرافية، ولا تعبر عن تاريخ… بمعنى ما، تاريخ الإنسان اليوم هو المعرفي الذي تُنتجه التكنولوجيا، وليس له محددات.
إنه تمازج، وتلاقح، وتكوين علمي معرفي، نُسهم فيه أو نستهلك منه، ويبقى هو تاريخنا الجديد، هويتنا، قدرتنا على الغوص لاستحضار ما يُلبي حدودنا، قدر الممكن.
ولستُ هنا أستهدف مكونات الهوية (دينية أو قيمية)، وأرجو ألا ننطلق من أحكام جاهزة ومواقف مسبقة، حتى لا نقرأ قراءة عرجاء ومشوّهة، تُعيق التفكير والتناول لإشكالية العالم الجديد، بكل صخبه وانتظامه وعنفوانه، وبكل تقنيته الرهيبة، المتفتحة، والمعطية بسخاء، والقابلة لـ”نحن” في المعرفي فقط، وليس الممانعة للقادم من فراغ، ومن تراث نأكله أكلًا لمًّا، حتى لا نقدر على التطور، واستيعاب المتغير، والتعامل مع تكوينات الراهن والمستقبل دونما ارتهان لجدارية الماضي وتدجين السلطوي.
فالواقع اليوم لا تدجين فيه، ولا إغواء، ولا تقتير على الجماهير، لتبقى في انتظار المرغوب أو المسموح منه، أو إجازته ودعه يمر ويتداول من جهات رقابية تسلطية تحرس القمعي، وتلغي التنوع كسُنّة إلهية.
في عالم اليوم الكوكبي، كل شيء لك، وفي متناولك، ومسموح به، ولا تسلّط أو إجازة لتداول كتاب أو فيلم أو سلعة ما.
لم يعد كلّ ذلك ممكنًا، وربما كانت سرعة (السيبرنطيقي) أكبر من أن تُحدّ، وهي كذلك، وقد صارت جزءًا منّا، لا يقبل المحو أو التأجيل أو الهروب.
بهذا المعنى، ثمّة هوية تتقدّم لتتموضع في سياق العصر، بكل إيقاعاته وتموجاته، وبكل ما لديه من ممكنٍ يستحيل صده.
هكذا يغدو الراهن البشري تاريخ “الأنا”، كما تاريخ “الهُوَ”.
كلاهما معنيّان بالعالم، بتداخل أحلامه، وهواجسه، وطموحاته فينا كإنسانية.
وهكذا دولاب التغيير يُنتج مكوناته، التي نجد إرهاصاتها في هذه التكوينات التي تنطلق إلى فتح مجالات واسعة للتغيير، لا تقف عند رغباتنا وتمترسنا ومواقفنا من “الهُوَ” على ضوء الماضي.
اليوم، ثمّة صيغة جديدة للإنسانية، بمعنى ما، وتشكل هوية تمتد وتذوب وفق القدرة على الحضور والإسهام المعرفي، والقدرة على الإبداع والإنتاج، وفهم معنى الاستهلاك في ضوء الموارد والممكن المنظّم.
وفهم التعاطي مع العلم كقدر لا مفر منه، ولا يقبل المداهنة، والهروب الذي يُعجّل بالقضاء على الممانع، سلطة نظام أو تسلّط دولة.
البقاء هنا للمعرفي، للقادر على رسم معالم تواجده معرفيًا، لإقامة شراكة مع الآخر بروح ديمقراطية، لا متسلطة، ولا ممانعة، ولا متخوفة.
فكلّ ذلك يعني الصراع مع دولاب الكوكبية، القادر على دكّ أي ساتر، أو حاجز، أو عائق.
وثمّة راهن يقدّم نفسه بسقوط أكثر من نموذج ديكتاتوري، بفعل المعرفي، من وسائل اتصال وتقنية معلومات، ألحقت الدمار الكبير بأعتى الممانعين للتفتح، وكانت كنموذج (الجزيرة) و(الشبكة العنكبوتية) هي رأس التغيير وسنامه.
هكذا، سنجد أكثر من “جزيرة”، وأكثر من تقنية تصفع التقوقع والتميّز والانغلاق.
ولن يكون أحد بمنأى عن تسارع قطار المتغيرات الكبيرة، ما لم يثق في المستقبل، ويتعايش معه معرفيًا، ويُسهم في إثراء تاريخنا البشري.
فالبقاء للمنتِج، للقادر على التمازج الثقافي، للمستوعب ممكنات التحول،
البقاء للأكثر قدرة في معرفة ممكنات الهوية الحضارية القادمة، مع استيعاب التراث والتعامل معه كمعطى قابل للتجدد.
فالتمترس في التاريخ، ربّما يجعلنا في تعاطينا وإسرافنا معه مجرّد متحف… ومتحف فقط.
والسؤال: كيف نتجاوز معوّقات الماضي مع الاحتفاظ بخصوصيتنا في تعاملنا مع المعرفي الكبير؟
سؤال وجودي في تقديري، آمل أن يُسهم أحدٌ في ملامحه، لنُبصرنا على تماس مع المنقول، في ضوء المعقول.





