- كتب: عمار السوائي
كنت واحداً من مئات الحاضرين اليوم فعالية إطلاق حدث تيدكس تعز الذي أقيم في قاعة الأستاذ أحمد عبده سعيد في منتزه المسبح، وتواردت في ذهني استلهاماً من أجواء الحدث بعض التعليقات التي فكرت أن أكتبها إكراماً لهذا العمل البديع، واستلهاماً منه، فاليوم كانت تعز حاضرة بروحها في وجوه الحاضرين جميعاً دون استثناء، تعز الفكرة والمبادرة والوعي والعمل، تعز النغم الجميل والصوت الدافئ والمشاعر الدافقة والإبداع اللامتناهي، تعز الإصرار والإرادة والمبادرة والعمل، تعز التي شاخت فيها الأزمنة وهي ما تزال تحمل روح الأطفال وشغف الحياة.
قال الفيزيائي الكبير آينشتاين يوماً ما معناه أن الإبداع هو التحول الذي يشتمل الذكاء ليصبح نوعاً من المتعة، وهذا بالفعل ما رأيته اليوم في قصص الملهمين الشباب، وهم يسردون متعة تجاربهم في تفاصيل حكاياتهم، تحدثوا جميعاً رجالاً ونساءً كأنهم يحلقون في قلوب المستمعين وأرواحهم، فتحوا سماوات الأمل للناس في مدينة كادت أن تكف عن السعادة والأمل، بلغة بسيطة أخبرونا كم كانوا مختلفين عنا وكم كنا لا نشابههم.
لكني – رغم إعجابي بتجارب الجميع – توقفت عند حكايةٍ واحدة، شابة صغيرة علمتني درساً من أهم دروس حياتي، راودتني وأنا أستمع إليها مشاعر التلمذة وكأني أجلس على كرسي الصف وأستمع لواحدة من أعظم معلمات القيم والأمل، بتقديري فإن (هديل عبدالله) شابة في مستهل العقد الثالث من عمرها، أراد الله أن تأتي للحياة فاقدة أعظم نعمه، فعاشت كفيفة تماماً مثل أمها التي لا تقل عظمة عنها، ولم تصدها الإعاقة عن المثابرة والتعلم والاجتهاد والأمل، تعلمت وتفوقت وحصدت في الثانوية العامة معدل 95 وهي تتعلم بلغة برايل، ويكفيها أن هذا المعدل وبلا جدال هو حصيلة مجهودها فهي بكل تأكيد غير قادرة على الغش وإن أرادت، فقررت إكمال مشوارها العلمي في الجامعة اتجهت للإعلام سيراً وراء شغفها، غير أن إعاقة المجتمع هذه المرة أعاقتها من بلوغ حلمها حين رفضها أحد المدرسين في القسم، قررت الاتجاه للبديل التالي وهو دراسة اللغة العربية، وهناك واجهت إعاقة أحد المدرسين في القسم (بنبلٍ رفيع تسامت عن الإشارة إليه بالاسم، واكتفت بالتفاصيل الملهمة من الحكاية)، ولم تحطمها كل محاولاته لقهر الأمل في أعماقها، ظلت جذوة الإرادة دافعها للاستمرار فدرست أيضاً إدارة الأعمال وهي اليوم في سنتها الأخيرة من البكالوريوس، وهنا انتهت قصتها، لم تنس هديل في ختام الكلام أن توجه حكمة بليغة للحاضرين ومنها لكل المجتمع، بعبارات راقية ولغة أنيقة ونبرات صوت واثقة وجهت رسالة لكل الناس عن آدمية المعاق، عن إنسانيتهم واحتياجهم للتقدير من محيطهم ومجتمعهم، أنهم بشرٌ مثلنا يسيرون على الطريق ذاته وإن تفاوتت السرعة، ويتعلمون مثلنا وإن اختلفت الطريقة، وأنشدت أبياتاً بصوت أشجى من اللحون ضمنتها كل حكمتها ورسالتها البليغة لنا جميعاً.
عندما انتهت هديل، ضجت القاعة بالتصفيق وقام الجميع تقديراً لهذه الشابة العظيمة التي قهرت أكبر مشكلات الإنسان وغادرت قيود عماها، في تلك اللحظات رأيتها المبصرة الوحيدة، بقلبها عرفت حلمها وتبعته، لم يكن لديها من الأمل سوى قشة لكنها تمسكت بها وبلغت غايتها، مثل (هديل) تستحق الحياة، أيقونةً للأمل والكفاح رغم المحبسين البصر والمجتمع، (هديل) باختصار شديد رفضت أن تعلق في الأمس، أن تضيع في الحسرة، أن يفتت الألم والإحباط وعمى بعض البشر قلبها، (هديل) تطلعت للغد، وعاشت تفاصيل اليوم تعمل من أجل غدها المأمول، ومثلها ستصل لكل محطات الطريق وستبلغ أهدافها حتماً. وكم تشبه قصة (هديل) مدينتي تعز، المدينة التي تعارك المستحيل لتتشبث بالأمل، تحمل الحياة في أعماقها رغم القيود التي تحاول تكبيلها، ورغم النزف والحصار.
***
التقدير كل التقدير لكل الرائعات والرائعين من كان رعاة الحدث، ومنظموه، ومن تكرم/ـت بمشاركتنا تجربته/ـها، ولمن حضر/ت بوعيه هذا الحدث، ولولا مشقة القراءة لكتبت أسماءهم/ـهن جميعاً.