- كتب: د. قاسم المحبشي
أثناء التحضير لندوة المواطنة الرقمية وسؤال الهوية أخذتني الروابط إلى عوالم جديدة في الشبكة العنكبوتية إذ أضربت أن اقرأ عن العالم الافتراضي تطبيقاته وأنماط الشبكات الاجتماعية وغرف الدردشة والمدونات دخت مواقع لم اسعادها من قبل ومنها التوكتوك وسناب شات فشاهدت كيف تنبني الهويات وتنهدم وتتبدل وتتغير ويعاد بناءها خلال أيام في صور وأشكال شتى وكما كتبت توركل ” تُبنى الذات، وتبنى قواعد التكفل الاجتماعي، ولا نتلقى تلقيا ، فأن نستخدم شبكة الانترنت” يعني أن نبتدع ذواتنا على نحو متواصل …فأنت ما تزعم أنك عليه… وهويتك على الحاسوب هي محصلة حضورك المشتت، ذلك أن هويتك شديدة السيولة والتعدد إلى الدرجة التي تجعل مفهوم الهوية ذا حدود فضفاضة” وكيف يمكن للناس تدبير هوياتهم الفضاء الافتراضي العالمي؟ كن من تكون وما شاءت لك الأقدار أن تكونه فأنت وانا وهو وهي في هذا العالم الافتراضي لسنا بأكثر من ذوات فردية على درجة متساوية من الجديرة والقيمة والأهلية.
وفي الختام يمكن استخلاص النتائج الآتية:
أولا: الهوية هي مشروع كينونة حضور الذات الفردية والجمعية وليست أطر جاهزة للاحتماء والانتماء والنكوس والدفاع لاسيما في لحظة عالمية شديدة التغيير والايقاع.
ثانيا: أن التعددية الهوياتية بمختلف صيغها ليست مشكلة في ذاتها, بل ربما تكون مصدر قوة وثراء وخصب ونماء للمجتمع التي توجد فيه.
ومما لاحظته الرقمنة إذ باتت الأرقام هي مفتاح السر في هذا العالم الجديد وقد بدأت الرقمنة منذ عصر التنوير مع نشوء الدولة الحديثة والمراقبة والمعاقبة بحسب ميشيل فوكو..
وكما كانت الرياضيات هي المثل الأعلى لليقين الاختباري في زمن ديكارت فكذلك صارت الأرقام والرقمنة والرقمية مفتاح العصر الراهن وربما القادم. الرقمنة مصطلح يعني تحولي الأشياء والكيانات والرموز والنصوص والصور الفيديوهات التقليدية بوصفها معلومات إلى نسخ الالكترونية قابلة للتخزين والتفعيل والتعديل والحذف والإضافة. وتلك هي ثمرة الثورة التكنولوجية الثالثة. وتنقسم الرقمنة فيما نراها إلى قسمين: رقمنة رسمية لأغراض أمنية وسياسية تقوم بها الدول الحديثة عبر تسجيل المواليد ومنح شهادات ميلاد وبطاقات شخصية وجوازات ورخص وكل المعاملات الرسمية التي تتطلب وثائق كما هو حاصل اليوم في جمهورية الصين الشعبية التي منحت لكل مواطن رقمه الوطني بغرض تقييم المواطنة بمنح نقاط محددة عن كل تصرف وسلوك ارادي أو غير ارادي وهناك دول كثيرة منها عربية حولت المواطنيين والمقيمين إلى نظام الشبكة الالكترونية الخاضع للمراقبة والسيطرة بما في ذلك ارقام الهواتف والنشاطات الافتراضية.
في هذا النمط الرسمي من الرقمنة تكون الهويات ثابت ومؤكدة بالتواريخ والارقام والاسماء والبصمات والصور ولا يمكن تغييرها أو تعديلها أو تزييفها أو العبث بها.
والنوع الثاني من المواطنة الرقمية هو ذلك النوع المهيمن في العالم الافتراضي في مختلف التطبيقات والمجالات بدءا من التسجيل والتوقيت والوزن واحصاء الخطوات والنبضات والاصدقاء والاجابات والتعليقات والترندات
إذ يبدو أن الأرقام سيطرت تماما على جميع مناحي حياتنا، فهي معنا في كل مكان تقريبا، في البيت وفي دور التعليم والاستشفاء وفي مرافق العمل، حتى أصبح عصرنا الذي نعيشه يسمى بالعصر الرقمي.
وقد ظهرت مع سطوة الأرقام هذه مؤسسات نذرت نفسها لدراسة وتحليل أثر وتأثير هذه الأرقام على حياتنا وسلوكياتنا، ومن بين هذه التقارير تقرير صدر مؤخرا عن مؤسسة “وي آر سوشيال”، يقدم إحصاءات وتحليلات لأثر الرقمنة على حياتنا تغطي الربع الأول من عام 2023، وفي السطور التالية تجدون ما خرجت به من هذا التقرير:
حوالي 5.18 مليارات شخص في العالم يستخدمون الإنترنت، أي 64.6% تقريبا من سكان العالم.
- عدد سكان العالم 8.03 مليارات نسمة، وعدد مستخدمي الهواتف النقالة 5.48 مليارات شخص، أي ما يعادل 68% من سكان العالم، وبحسب بيانات شركة إريكسون للهواتف فإن في العالم حوالي 7 مليارات هاتف مستخدم حاليا.
- ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت في الهند، وبلغ 720 مليونا بنهاية 2022، أي ما نسبته 50.5% من السكان، مع ملاحظة أن هذا الارتفاع ملاحظ بشكل واضح في المناطق الريفية، وبين الرجال أكثر من النساء. وبالرغم من هذا الارتفاع، تظل الهند من أكثر مناطق العالم التي يوجد بها سكان غير متصلين بالإنترنت (700 مليون شخص).
- ما زالت الصين مهيمنة على موقع أكثر بلدان العالم اتصالا بالإنترنت، بعدد مستخدمين وصل إلى 1.07 مليار شخص، وهو رقم مرشح للارتفاع في ظل الإمكانات الهائلة التي تيسر من عملية النمو الرقمي في البلاد.
- يوجد حوالي 5.18 مليارات شخص يستخدمون الإنترنت في العالم، أي حوالي 64.6% من سكان العالم.
- بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في أبريل/نيسان 2023 حوالي 4.80 مليارات شخص في العالم.
والمواطنة الرقمية في الفضاء الافتراضي ليست نشاطا وهميا كما يوحي مصطلح الافتراضي بل هي واقعية حقيقية ومحسوسة وملموسة إذ إن العالم الافتراضي مثل قرية صغيرة تسعى إلى محاكاة الواقع المادي عن طريق ما هو رقمي، وذلك بتوفير ساحات لأفرادها من أجل اللقاء وتبادل الأفكار والمعلومات وربط علاقات عاطفية. بالإضافة إلى تقديم العديد من الخدمات والأنشطة الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، و«ليس فقط على الصداقات الشخصية أو الدردشة، ولكن أيضا على التسويق والتجارة الإلكترونية، والتعليم، والثقافة الإبداعية والإعلام… » حيث يرجع ذلك إلى السيولة في تدفق المعلومات التي تعطي الأفراد القدرة على تبادل الرسائل والسلع بشكل أسرع.
غير أن الهويات هنا ليست ثابته بل متغيرة ومتبدلة باستمرار فقد يسجل الشخص بصفته إنسانا عاديا فإذا به بعد أشهر يتحول إلى شخص مشهور بالتوكتك أو اليوتيوب أو السناب شات ويمكن للمرء أن يدخل باكثر من هوية ذكورية أو انثوية فكم هم اولئك الذين يخفون هوياتهم الحقيقية لأسباب مختلفة.
وهذا هو ما وصفه بيير بورديو بالهابتوس حيث تتشكل العلاقات والقوى والهويات والفرص والمنافسات والصرعات إذ يتم بناء الهابتوس الافتراضي عن طريق التقانات الجديدة التي بدورها تقوم ببناء هوية الفرد، غير أن هذه الهوية ليست منسجمة مع ذاتها، لأنها تخضع لظروف وشروط السياق الاجتماعي. صحيح أن الهابتوس الافتراضي عبارة عن استعدادات منغرسة في الذات إلا أنها ليست متجانسة، بحكم تعدد السياقات الاجتماعية التي تؤثر في السلوك الاجتماعي، فهي مصنوعة من أنشطة وممارسات غير واعية أو ذكريات أو خبرات بنيت عن طريق ما هو رقمي.