- كتب: أحمد السلامي
بداية أشير إلى أن هذا تعقيب أو استطراد غير مخطط له على حلقات مجلي الصمدي حول (ميدان التحرير) بالعاصمة صنعاء، التي جمع فيها بين ذكرياته الشخصية وبين وصف جانب من معالم الميدان ومركزيته في سيرته وسيرة أسرته التي انتقلت مثل غيرها من الأسر من الريف إلى العاصمة صنعاء.
ولا أنسى هنا الإقرار بتثبيت حق الصمدي في الملكية الفكرية لتحويل مذكراته إلى كتاب أو إلى عمل درامي، بناء على تواصل إحدى القنوات معه، حسب ما نشره على صفحته الفيسبوكية..
وإذا كان المكان هو محور السرد أو نقطة الانطلاق وبيئة الأحداث والمشاهدات، فنحن نعرف أن (ميدان التحرير في صنعاء) حكاية لها رمزية وقيمة أكبر وأشمل من عهد علي عبدالله صالح الذي بدأ سنة 1978، ولا أقصد أن على الراوي الغوص في سرد تاريخ الميدان منذ أن كان يحمل اسم (ميدان شرارة) قبل ثور 26 سبتمبر 1962، بقدر ما أرى أن الميدان لوحة ذات زوايا متعددة، وجميعها زوايا لافتة وملهمة ولها ارتباطها بالبشر والأحداث والأنشطة المختلفة التي عاصرها الميدان.
أول هامش لا بد من التعليق عليه، ما ورد في حلقات الصمدي بشأن الجبهة الوطنية التي نشطت في عهد الرئيس علي صالح، إذ يظهر من سياق حلقات الصمدي (9 حلقات حتى الآن) أن عائلته كانت متضررة من تحركات الجبهة في ريف منطقة عُتمة، وبالتالي لجأ خلال سرده إلى تغييب منطق الجبهة السياسي والرؤية التي دفعتها إلى التحرك الميداني ضد النظام وضد البنية الاجتماعية الاقطاعية التي كانت ولا تزال راسخة في الشمال وتتحالف مع كل سلطة تحمي مصالحها.
صحيح أن الصمدي لم يتعمق في تفاصيل تلك المرحلة وخلفياتها، ولم يتورط في إبداء موقف واضح، لكن السياق العام الذي اعتمده كخلفية لسرد الأحداث، يوجه المتابع ويوحي له من دون كلمات مباشرة إلى تبني وجهة النظر التي دمغت الجبهة بالتخريب العبثي والمجاني واستهداف المواطنين وأمنهم من دون أية أسباب، وهذا غير صحيح، ويلزم على أي مؤرخ أو كاتب دراما أو صاحب مذكرات أن ينقل وجهة نظر الطرف الآخر، بحيث لا يساهم في شيطنة فصيل سياسي كانت له أخطاء وشطحات وربما ارتكب أعمال عنف مرتجلة وعشوائية تضرر منها أبرياء، لكن ذلك الطرف لم يكن يتحرك بشكل عبثي وخال من الغايات السياسية التي لها منطقها وسياقها الاجتماعي والايديولوجي.
وحتى لا نطالب المذكرات (الفيسبوكية) للصمدي بتحمل أعباء التوثيق والتاريخ والتحليل الدقيق للأحداث، أعود إلى (ميدان التحرير) بؤرة المذكرات ومحورها، ولا يمكن أن أنسى حديثا شفهيا للصديق علوي السقاف قبل سنوات، أشار فيه إلى رمزية ميدان التحرير التي تشكلت بعد ثورة سبتمبر، وجعلت من المكان عنوانا لفكرة الجمهورية كنقيض للملكية الإمامية البائدة، التي اشتهرت بالعزلة وفرضت على السكان التقوقع في مناطقهم الامر الذي أجل بروز ملامح عاصمة عصرية للبلاد حتى قيام الثورة.
تلك التحولات التي جاءت بها ثورة سبتمبر (العظيمة بحق) جعلت من ميدان التحرير منذ 62 من القرن الماضي الميدان الأكثر شهرة في عاصمة الجمهورية الوليدة، ممثلا بالخليط البشري الذي كان يعبر الميدان، من العمال والموظفين والطلاب والجنود والوفود الأجنبية الرسمية الزائرة وقوافل السياح لاحقا، وبعض الجنسيات الوافدة للعمل في قطاعات التعليم والصحة والمالية والمقاولات وهندسة البناء وشق الطرق، إضافة إلى أصحاب المحال التجارية والمكتبات والوكالات العالمية وفروع البنوك وبعض المنظمات.
وميدان التحرير بتنوع لهجات وملامح وجوه العابرين والباعة ومن يرتادون الفنادق والمقاهي والمطاعم، يضم أيضا محال الملبوسات الحديثة التي لبت معروضاتها ذائقة جيل جديد من الشباب والموظفين والطلاب، وكل ذلك الخليط البشري المتنوع ظل يكشف عن تشكل عاصمة مركزية للجمهورية محاطة بالطبع بأرياف ومناطق قبلية محرومة.
أخشى أن أكون قد ابتعدت قليلا عن ميدان التحرير كما جاء في حلقات الصمدي الفيسبوكية، لكني أشرت في البداية إلى أن ما سأكتبه سيجمع بين التعقيب والاستطراد، وما أود قوله أن الميدان برواده وشهوده ومجتمعه الجديد، كان انعكاسا لميلاد نظام جديد، وكان أيضا معبرا من خلال الزحام والتنوع البشري عن بطء أو غياب التنمية في الأرياف الشاسعة وبقية المحافظات والمدن الثانوية، وتلك إشكالية تسببت في ظاهرة الهجرة من الريف إلى العاصمة وإلى غيرها من المدن، بحثا عن فرص أفضل للحياة والتعليم والعمل والخدمات.
بمعنى أن الأغلبية كانت لهم أسبابهم للانتقال إلى صنعاء، وعلى من يتناول ذاكرة ميدان التحرير خلال أواخر السبعينيات مرورا بالثمانينيات وما بعدها .. عليه الإشارة إلى عوامل الهجرة الداخلية في بُعدها الاقتصادي، وليس كما اكتفى الصمدي بالتركيز على عمليات الجبهة الوطنية التي ربما كانت بالفعل السبب الوحيد لانتقال أسرته إلى العاصمة.
يتبع حلقة ثانية …