- منصور الأصبحي
ثمة ثقة تبادلية بين القارئ والنص الأدبي وهي ربما أشبه بحصيلة تفوقية كضامن موضوعي لاستدامة العلاقة بين طرفي هذه الثقة كون النص الأدبي خلاصة لجمال إبداعي أحرزه الأديب فنا تخيليا تفكيريا، وطرحا جماليا ببيانيته المرنة، هذا من ناحية، ومن أخرى استيعابه لأكثر قضاياه الواقعية فأفرزت النص كترجمة لأحلام مجتمعية يطمح الجميع أن تتحقق واقعا تنبأ بها النص بأنه وضع محدداتها الرؤيوية، ثم رسم حركتها بأسلوبه اللين، رسما على الورق، وهو ما يرتسم على الأذهان لإحداث أكثر حراكات الجمالية التي وحدها كفيلة بقولبة الجمال كرؤية وكسلوك بشري ينتقل بالأثر، ويقاس بالنظر، وبحسب “إيليا أبوماضي” : “كن جميلا ترى الوجود جميلا”.
يبقى الجمال في النص الأدبي الذي نلمسه هو شعور ينبعث به إلينا النجاح الكامل للفن الأدبي في مهمته، وهو انعكاس تحويلي لجمال روحي امتزجت فيه مشاعر الأديب وأفكاره، وحتى حواسه الست المتفاعلة مع ما يطرحه تحديدا حين يمارس ذلك سلوكا يؤيد جماله وعيا وشعورا وطرحا وغيره، وبحسب “جوته” فإن الجمال هو الحالة “التعبيرية” المشار إليها من خلال أي فن يخلقه الفنان، والأديب كفنان احترافي في مجاله، كما الرسام والشاعر والموسيقي والنحات وغيره، هذا يمنحه الفرصة تلو الفرصة لينال الثقة آنفة الجمال الإبداعي، التي انبثقت منها ثقة القارئ، وهنا يقاس الجمال كبريق يستولي على النفس، وهو بالأساس ما يدخل الجمال بطريقته الأستاطيقائية، لارتباط الجمال بالكينونة أصلا، وهو ما يعكس رؤيتها لكل شيء، كما يفهم من خلال الأشياء الجميلة، وبحسب الاستاذ “سوريو” الجميل يرتبط باكتمال معين للوجود والكائن” انتهى .. ويرتبط بالشعور والضمير، وبالمقابل فإن الحواس المدربة على تلقي الجمال وحدها أشبه بمؤشر “ريختر” الجمالي لاعتبار أن انطباعها متجرد من أي تكلسات البراغماتية كحالة ذرائعية هدفها تقويض أهم عوامل الإلتقاء بين النص الأدبي “كفن إنساني جمالي” وبين المتذوق المزهر بأنفاسه وبرؤاه الجمالية. التجربة الجمالية من حيث المبدأ ليست حالة ترف يمكن اقتناؤها إذ لم تكن جيناتها نشطة في كينونة المبدع الذي يتهيأ بها للفن الذي يبدعه دون تكلف يقتل روح الجمالية النابعة من إرادة المبدع ومن حساسية المحب للفن، كهدف محوري وصفة لقيمة الجمال التي يدعيها ويعترف بها هذا المبدع أو الهاوي، بل صفة للمطلب الروحي المجسم أو الذي يمكن أن يجسم من خلاله. احتكار التصور العميق لأي نص أدبي إبداعي من قبل القارئ هي حالة أنانية وإجحاف حقوقي غير منطقي هذا رأيي ع الأقل، حيث يتم إصدار أحكام ليست عادلة بمجرد المرور السطحي على ظاهر النص دون أي نظر لمدلولاته العميقة كقراءة لما بين السطور والتي ربما هي المعنية أصلا بهذا النص، بالتالي يفترض من حيث المبدأ العادل أن ينزع أي قارئ أو باحث أو ناقد نواة التمر دون إثارة جدل كي يتحدث عن طيب الثمرة “التمرة” لكن لو استغرق بانتقاد النواة قد يفقد أجمل لحظاته مع المضمون الأصل، بالتالي سيدخل بجدلية : هل البيضة قبل الدجاجة أم العكس ؟ أمر آخر أن الأديب والشاعر هو ابن بيئته المسلماتية بهكذا أمور تشريعية تكتنزها أعماقه الروحية وأراؤه الاعتقادية والتي تؤمن بالمقدس الإلهي كإيمانه أنه لم يتجاوز حدوده، بالتالي فالأديب والشاعر والمفكر والفنان حصيف بالفطرة وتدله معرفته التراكمية الشفيفة غالبا على زوايا بلاغية ولغوية، ومجازات انزياحية قد تمكنه من توظيف كل ذلك بصورة احترافية بليغة المعنى مع بقائه بحدود المسلمات المقدسة. ولأن التصوير الأدبي ربما هو أذكى من عمومية اللفظ لهذا هو أذكى بتوصيل رسالته الجوهرية دون تعقيدات لفظية شائعة. وعليه : وبحسب “جان برتليمي” : فالأديب ينتقل من عالم الألفاظ إلى عالم آخر للألفاظ. من هنا لا يمكن تجاوز الحالة التعبيرية انفعالية الظرف والحال والواقع، والذي أبدا لم يصغ الأديب نصه مجردا من واقعيته النفسية ذات مؤثرات استنطاقية -بالغالب-، وفي المدلول العميق تتضح المعتقدات. ما أقصد أن رؤية الأديب لأي صورة للكمال الإنساني لا يمكن استدراك فحواها بالظاهر سيما وهو يشاهد أي صورة للكمال وقد تم العبث بها، وهذا ما يستفز شعوره النفسي ومكنونه الروحي ويجعله يتخذ من أبهى صور الكمال إيحاء تصويريا لهزيمة إنسانية جمالية لا تؤثر على قناعته بطهرها في كل الحالات. ويرى “أوسكار وايلد” أن الأدب يعلم الحياة أكثر من أن يتلقى عنها المعلومات.. انتهى، فقط كي لا نتهم الأديب بخروجه عن أي مضمون تشريعي “مقدس” من وجهة نظر متدينة. الإنصاف بالتفهم العميق لأي فكرة كتابية تعتبر سنة من سنن الكون التي يستقيم عليها، وهذا ما يستدعي من القارئ مزيدا من التأمل العميق حتى لا نحاكم الآخرين من مجرد أرائهم أو ما يكتبونه ويطرحونه، وربما لا يمكن استدراجهم لهكذا مربعات شائكة إذا فهمنا عملية التأصيل الفقهي كي نقترب من المضمون الدلالي كعمق فلسفي في ذات التفهم. بالمجمل : لا يمكن تخيل الأديب أن يكون مصدر خوف من القاتل الذي يخطف أرواح الأبرياء بدون شفقة، ولهذا لا خوف على أي ثوابت منه مهما كتب ومهما قال، بالنهاية هو مصدر إشعاع جمالي ولوحة لبيان يمشي على الأرض، لهذا لا نحمله فوق طاقته ثقي بكلامي لك، هذا لا يعني إدراجه بقائمة القتل، بالعكس فهو المحامي والمؤتمن على الكلمة وهذا ما يجعله موسوما بقدراته لغوية وبلاغية، والخبير باستعمال أدواته المختلفة في النص منها فلسفية كمعرفة تراكمية وحده يستعملها بمرونة لائقة بالعرض. فالأصل أن ننصفه خيرا من تحميله أوزارا هو أبعد ما يكون عنها بعد الشمس، لكن أن نكون نديين له حديين باتجاهه سنكون قد أمعنا في المبالغة ضده وهذا لا يقبله العقل، أو المنطق، أو مختلف الشرائع الإنسانية التي منحت المثقف المنتج للثقافة المعرفية استمازات استثنائية شفيفة جدا رغم اعتقادات كثير من المفكرين أو المثقفين العرب بأنهم شوكة ميزان سمائي حتى لو لم تكن لهم صلة بالتدين، لأن مؤشر الخطر من الآخر حالة قد انزرعت بعمق تكوينيتهم السيكولوجغرافية.
ومن نتائج الوعي السلفي لم يكن نجيب محفوظ وفرج فودة وغسان كنفاني وغيرهم كضحايا التطرف بالرأي إلا حينما فهمت أفكارهم وفق رؤى شخصية منقوصة ومشوهة، وهنا بماذا سيجيب أي مشوه بوعيه الفكري التفكيري حين يجد أن “نيتشة” كواحد من أكثر الفلاسفة المدافعين عن الإلهة برغم اعتقاداته فلسفيا ورؤاه تنويريا، كأحد اشهر من سفه الافكار الدينية الاستاتيكية والمتخلفة ومضاعفاتها وعيا فكريا ومجتمعيا مقولبا بذات التسطيحية، بالتالي سيبقى مقياس الاعتقادات بعيدا عن الرؤى الكتابية وهنا يمكن أن نتحدث عن الحرية المفقودة شكلا ومضمونا ووعيا ببلدان المسلمين الغارقة بهوس “المقدس” الذي تم من خلالها فرز الواقع المجتمعي بكل أفكاره وعقلياته وأراءه ومفكريه إلى فسطاطين أحدهم في الجنة والآخر في الجحيم. فالحديث عن “المقدس” كأحد مواضيع الحوار الكوني الذي ابتدأ به الله تعالى مع إبليس الذي,من نتائجه العادلة إرساء أروع وأرفع مبادئ الديمقراطية التي منحت الآخر “إبليس” المساحات الواسعة من التعبير والتصرف أو التغيير وإن كان بسياق التحدي لإثبات حقيقة إلهية مطلقة، لكنها إجمالا انتصرت للحوار حول المقدس بصورة أكثر مرونة واستيعاب لم تقطع الطريق أمام “إبليس” باعتباره قد مس “المقدس” بأسلوب ازدرائي حاد، لينتصر الحوار مع الآخر والقبول به. وكما أشار “روجيه كايوا” حول “المقدس” : ينبغي تجنيب الطبيعة والمجتمع كليهما الهرم المحتوم، ذاك الذي يؤول بهما إلى الخراب في حال لم تتخذ إجراءات ضرورية لتجديدهما، وإعادة خلقهما دوريا، هذا الإلزام الجديد يفتح فصلا جديدا في دراسة المقدس، بحيث لا يكفي عرض طريقة عمل نظام العالم والقول أن قوى المقدس تعتبر خيرة او مشئومة بنسبة إسهامها في تماسكه او تسريعها في انحلاله، وإنما يقتضي اللفت إلى الطريقة التي يعتمدها الإنسان بحفاظه على هذا النظام والجهود التي يبذلها من أجل تجديده، عندما يراه يتفتت ويشارف على الانهيار، ولكن ربما كان يجدر بنا قبل البحث عن كيفية نهوض المجتمع بهذه المهمة المزدوجة، وقبل الشروع في وضع ملخص لسوسيولوجيا المقدس أن نحاول استخراج بعض الثابتات من الموقف الذي يتبناه الإنسان منه، ومن التصور الذي يكونه عن القوى السحرية، تلك التي ينحني أمامها ويخترز منها ويسعى إلى تملكها، في آن، وهنا يتراءى المقدس بنظر الكثيرين من خلال الوجدان البدائي، والوجوه التي يتخذها بالنسبة لمن يتحسسه. ما من نظام ديني حتى بالمفهوم الأعم إلا وتمارس فيه مقولتا الطاهر “pur” والنجس “impur” دورا أساسيا، ومع تمايز مظاهر الحياة الجماعية وتشكيلها ميادين مستقلة نسبيا “سياسية، علوم، فن، ..إلخ ” تكتسب كلمتا الطاهر والنجس معاني جديدة لئن كانت تفوق المعنى القديم دقة ووضوحا، فإنها بالفعل عينه تقصر عنه غنى واكتنازا. يجري التمييز بين دلالات هاتين اللفظتين اليوم انطلاقا من تحليل يلوح انه ليس من صنع معرفة مجردة بقدر ماهو وليد ضرورات فرضتها طبيعة الحضارة، جل ما يجمع اليوم من اللفظتين المذكورتين هو نسيج واه من استعارات وصلاة متبادلة، لكن كل ما هنالك يوحي أنهما مندمجتين بالبداية كل الاندماج ومستعملتين للتعبير عن التجليات المتعددة لكل معقد لم يخطر ببال امرئ يوما أن يفك عناصره. فالتعارض القائم بين عالم المقدس وعالم الدنيوي كأشبه بالذي يضع عالما من الطاقات في مواجهة عالم من الجواهر المادية، هذا التعارض بين قوى وأشياء ينتج منه على الفور أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمفهومي الطاهر والنجس اللذين يبدوان في غاية الحراك والتعاوض والالتباس. والواقع أنه إذا كان الشيء يملك بحسب التحديد المعطى له طبيعة ثابتة فإن القوة يمكنها بخلافه أن تفيض الأنعام أو تجلب الرزايا تبعا لما يحيط بتجلياتها متتالية من ظروف خاصة، بالتالي إن أكثر الحضارات بداءة لاتفرق بلغاتها بين الحظر الناجم عن احترام القداسة والذي يوحي به الخوف من الرجاسة. فلو تعاملنا مع الأديان من منطلق “القداسة والنجاسة” ربما أبعدناها عن أكثر قيم العدالة التي تقوم عليها كل الثوابت الإنسانية الأساسية، وهي من تحفظ الكليات الخمس من أي إهدار بشري لتوجهنا صوب زاوية محددة أغلقنا فيها كادر الكاميرا عليها دون الإلتفات إلى أعم بل وأهم قضايا الأديان والإنسان والعدالة واحترام العقل.
– مراجع : مباحث في علم الجمال
– جان برتليمي. الإنسان والمقدس
– روجيه كايوا.