- خالد عبدالهادي
لا يصعد الكتاب الهواة والمثثاقفون في الفراغ بل على أكتاف المثقفين المحنطين والصحفيين الهزيلين، وعلى وقع صيحات إعجاب تتعالى من أفواه الأغبياء والمتطفلين وذوي الأذواق الرديئة والمجبولين على فغر أفواههم حيال أي فكرة متواضعة.
يجري على الثقافة والكتابة ما يجري على الثورة والدولة والفن والفلسفة من سيرورة، فحين تبلغ الثقافة أوج شأوها، تنتخب أفضل من في طبقتها ليعتلوا قمتها وحين تنحط إلى أسفل دركاتها، ترفع أحط متثاقفيها وأجرأهم ادعاءً ليطفوا على مستنقعها، وكذلك هو شأن الكتابة.
تتقدم هذه العملية بتلقائية في ظاهرها ولكن بوعي كامل في عمقها؛ فدفاع لفيف متنوع من المبتذلين ثقافياً وأنصاف الصحفيين والمتبطلين والإمعات عن هواية ابتذال الكتابة وهواتها إنما هو دفاع عن حقهم في تمثيل مستوياتهم وتفضيلاتهم الثقافية، إذ بأولئك الهواة يتحقق تماثلهم الثقافي والأخلاقي والنفسي، ويضمن الطرفان استمرار دفقات التسلية.
وبذلك سأفهم، مثلا، كيف لمن يتأبط كتب فريدريك نيتشه يومياً بغية نيل شهادة صلة بفلسفة القوة أن يخر من سماء هذا الفيلسوف الإشكالي ليحط على قطعة روث، مطلقاً زعيقاً مؤذياً في تفخيم دودة الروث والمجادلة بأن لها أطرافاً ومواهب.
هل يدرك المتعالم هذا، أنه كلما أطل مدافعاً بروح الموظف الرسمي عن هواية ابتذال الكتابة تبعث حاله على الرثاء وهو يكابد دور وصيفة تناضل فوق جهدها لتجميل عروس دميمة، وأن إقدام نصف موهوب على إصدار أحكام في الموهبة تجاسر تحفزه قلة الحياء.
الكتابة فكرة فإذا عدمتها لا تلقم قلمك سبعة آلاف كلمة في محاولة استدعائها دون أن تقبض حتى على طرف منها.
لا صلة لما يستنسخه الكتاب الخدّج والرائجون بوفرة هذه الأيام بالكتابة أو أدب المساجلات، بل ينطوي برمته على إسالة حبر وافر في نسخ أشلاء تفاهات وثرثرات بتقنيات تحرير خالية من الجاذبية والإبداع ثم تسويقها للقارئ تحت غلاف المحاججة والنقد.
وهم بذلك يغشون القارئ ويبخسون قدرته على كشف غشهم، لأن ما صدروه إليه ليس سوى توثيق للتعذيب الذي رزحوا تحته وهم يحاولون استخصاب مخيلاتهم القاحلة بلا جدوى، ومن حقه أن يحتج: لا تصدروا لي قرف مخاض جماجمكم المتعسر.
تدور السجالات وتحتدم النقائض في الأفكار، وحين يهرب الكاتب من نقد بنية الفكرة وموضوعاتها ليتلبس شخصية أنثروبولوجي أو خبير نفسي كي يقدح قدحاً مجرداً في خصمه فلا يقدم غير شهادة على عقم عقليته وحمق رأيه.
ثانيةً ولهواة الكتابة: إذا كتبت لا تسمعني لهاثك ككلب في ظهيرة قائظة وأنت تطارد فكرة لن تأتيك، بل أرني الفكرة، واكتب، بالمبضع حتى، في دحض أفكار خصمك.