الكتاب للناقد العراقي علي شبيب ورد والصادر عن دار رند للطباعة والنشر/ دمشق/ 2010و” ينطوي الكتاب على مقتربات نقدية، في تقنيات الشعر العربي والكوردي المغاير،وضمن مقدمة ضانّة متسائلة، تعرض الناقد لتجربة الشاعر(أدونيس) ثم توالت المقتربات النقدية وفق أربعة حزم، لتتناول تجارب شواعر وشعراء عرب وكورد.وهم كل من(محمد الماغوط/ صقر عليشي/ هيفاء فويتي/ رشا عمران/ إيمان الإبراهيم) من سوريا. و(سيف الرحبي/ فاطمة الشيدي/ طالب المعمري) من عُمان. و(الياس لحود/ شارل شهوان/ هدلا القصار) من لبنان. و(قاسم حداد) من البحرين. و(أحمد بلحاج آية وارهام/ عبد السلام المساوي) من المغرب. و(فاطمة ناعوت/ محمد سعد شحاته) من مصر. و(سعيد هادف) من الجزائر. و(محي الدين جرمة) من اليمن. و(شريف بقنه الشهراني) من السعودية. ومن العراق الشعراء العرب كل من(كاظم جهاد/ عبد الزهرة زكي/ كريم شنيور/ طارق حربي/ هاشم تايه/ فينوس فائق/ رنا جعفر ياسين/ عدنان الزيادي/ ربيع حسين الجامح) ومن الشعراء الكورد كل من(شكري شهباز/ هزرفان/ عارف حيتو/ حسن سليفاني/ بيار بافي/ بشير مزوري/ جوله حاجي/ مصطفى سليم ئاكره يي/ سلام بالايي/ شمال ئاكره يي/ فاتمة سافجي/ كرمانج هكاري) في الكتاب يثير الناقد جملة أسئلة، منها:
هل يمكن للشاعر إنتاج نصوص قادرة على تكرار التلقي وعلى الدوام؟
كيف يحظى النص بأسباب خلوده القرائي؟
أليس منظومة البث أكثر أهميّة وحسماً- في معادلة الاتصال– من منظومة التّلقّي؟
وهل يركن الشاعر أحيانا، لشهرته فقط، في إنتاج بعض نصوصه؟
وهل تشفع له قدرته الإبداعية فقط على إدامة حسن التلقي؟
أم لا؟
ليس للشعر حدود يقف عندها، لطغيان عواصف الانزياح العاطفي المتمرد على كل العوائق الزمكانية. وعليك أن تتوشح برداءٍ من عبق إنساني كي تحقق اتصالاً عميقا مع ما وراء بنى النص المنظورة. إذْ ليس القراءة الجادة رغبة عابرة لقتل الوقت، أو لكسر الملل الذي عادة ما يلازم إنسان العصر. إنها عملية معرفية خالصة تتطلب جهدا حثيثا لمتابعة ما يستجد، بحثا عن منجزٍ مضاف للثقافة الإنسانية شديدة التناسل. ولتوفر العدد51 يوليو/2007 من مجلة نزوى لدينا، أغوتنا نصوص الشعراء العرب المنشورة فيه على قراءتها، لما تتوفر عليه من محرّضات للتناول القرائي. فعملنا جهدنا في تأمل جنان بوحها، ومن ثمّ الوقوف عند بعض ملامح ورشها الاشتغالية. وذلك سعيا منا لتحقيق بعض ما نصبو إليه من تطلع رؤيوي على مستوى حداثة النص. وارتأينا إجراء فحصنا النقدي وفق أربعة عناوين ثانوية، يشمل كل عنوان ثلاثة شعراء، وحسب تسلسل نشر قصائدهم في المجلة.
النص الحافل بمغريات القراءة
ان هدف الوصول إلى فهم رؤية الشاعر المتخفية في النص الشعري، يتطلب مغادرة التلقي لكل مناطق تحديد مواصفات النص المطلوب. وذلك بفتح فسح شتى للعلاقات الممكنة مع مدونته، والتي تمنح كلاً منهما فرصة عرض ما يراه مناسبا من رؤى على الآخر. لتحقيق التوازن الإنساني المفترض في العلاقة الجدلية التبادلية بين طرفي الاتصال والتلقي (إن الإصغاء للقصيدة وتحليلها إلى أجزاء، هما فعاليتان مختلفتان كلياً. فالتأثير يعتمد على الفعالية الأولى، في حين أن الثانية تفسر ما يحدث للطبيعة البشرية، عندما تتعرض لمجموعة من المعايير تعرف بالأسلوب)
صحيح أن الشعر يكتب للناس وليس للشاعر أو الناقد، ولكن هذا لا يمنع من جدوى توفر المهارة الأدائية لكليهما. وهنا تكمن صعوبة بل حرج كل منهما إزاء ما يقومان به من عمل يتعلق بالذائقة. وعلى كل منهما أن يتحلّى بقدرٍ من المرونة التي توصله إلى التعرف على نوايا الآخر. فإذا كان على الشاعر أن يبذل أقصى طاقاته الإنتاجية، ليحقق النص تأثيره في التلقي خلال عملية الاتصال. فعلى الناقد أيضاً(أن يبذل جهده لممارسة تأثيره على القارئ الاعتيادي لجعله على وعي بما يميز العبقري عن صاحب القدرات المتوسطة أو المتواضعة)ولعلنا نغامر بهذه العلاقة بوقفتنا النقدية عند نصٍّ واحدٍ فقط لكل شاعر من الشعراء المنتخبين لإجرائنا القرائي هذا. ونتمنى أن نجد في الجانب الآخر من يتفهّم حرجنا من مخاطر هذا التناول.
/ الرؤى المعلقة في سماوات النص/
التنبؤ ميزة الشاعر الأصيل، وبدونها يتحول إلى كاتب غير مغرٍ لقارئه المفترض المتصف بجدية الفحص والتناول. وهذه الميزة ليست بالجديدة على المشغل الشعري، فالشاعر منذ الأزل كان رائيا يستبصر الآتي ويرشد الجماعة إلى المؤشرات التي من شأنها أن تنبئ عن المتوقع الذي يمكن أن يحدث. فهو بقراءته للعالم الذي حوله يسعى جاهدا لافتراض عالمٍ آخر يكون بديلاً مجدياً له. وعملية القراءة هذه تستدعي استحضارات أولية للمّ شتات نصوص ما قبل التدوين والخروج منها بنص جديد فيه من التنبؤ والتطلع الرؤيوي الذي يغري التلقي على التواصل معه بوصفه يحتمل الكثير من الرؤى الجديدة غير المعروفة. ونحن شئنا أم أبينا فان الكتابة ومنها الشعر-رغم جنوحه العاطفي- هي عمل من أعمال الفكر الإنساني اللغوي في بحثه عن الحقيقة. وهذا ما نقرأه في محاورة (فيدروس) اليوناني عن النفس البشرية حين تفكر (إن الفكر خطابٌ توجهه النفس إلى ذاتها، فالنفس حين تفكر لا تفعل شيئا سوى محادثة نفسها، سائلة ومجيبة، مؤكدة ونافية، إن الحكم يتم حينما تنطق به بصدد موضوع، الحكم إذن هو النطق والرأي والخطاب الملفوظ لا صوب الآخر وبصوت جلي، ولكن في دخيلة النفس وفي صمت). تلك هي نفس الشاعر في حديثها مع المتلقي التواق لمعرفة هذا الحوار الذاتي الرؤيوي للنفس، الذي يسمى الخطاب الشعري. ونسعى في وقفتنا النقدية هذه إلى تلمّس بلاغة الصمت ونتحسس انثيالات معانيه على بياض الورق، في النص التالي :
وبحميمية عذبة يقدم لنا الشاعر اليماني (محي الدين جرمة) نصه الإيحائي (العطر «يفهم» لا يُشَمُّ) باجتزائه لنصٍّ من الشاعر المبدع (أنسي الحاج) الذي ينم عن حفاوة عالية بالقاري لشعره(إصغاؤك لشعري أشعرَ منه) وهو يدعونا للتجوال في مشغله الشعري، الذي يتعالى فيه غبار معاركه مع اللغة الشعرية وهي تنهل توهجها من كنوز مشاعره ورؤاه. وذلك من خلال امتشاقه لحلم تساميه في فضاءات طقوسه الكتابية. إنه ينشئ علاقة انشداد مع عوالم كونية تزيد من سمو مشاعره ونبل مراميه (يشعلني ثقابٌ/ في أزرق الكون/ أضيءُ عتمةَ العدم/ كأني دمُ الماء/ وقلبي قميص الشّفق/ أحزمني بظلالٍ/ لا ترى في الظلال) إنه لا يتوانى عن الغور في جوهر مشاغله إبان زمن الكتابة. وباستخدامه للأداة(لو) السحرية يأخذ بنا من مجالسنا الأرضية إلى متاهات أحلامه ومسارب مراميه الرؤيوية(لو شجرة غريبٍ سالت/ على مرآة/ لتعرّى وجودٌ/ إلاّ من خضرة الأجساد/ وأزهار المطر) أنه الوجد الكتابي الموغل في الامتثال للعزلة. فلا شيء يمكنه أن يخرجه من جنة انبهاره بهذا العالم الحلمي الأخّاذ. ولعلنا نجد فيه ارتباطاً جنونيا بتصوفه المعرفي وانصرافه التام لهذا المشغل العبق بمسك الانشداه بأيقونات الرؤى المعلقة بتوزيع غرائبي على أركان المشهد (العطرُ يُفهمُ/ ولا يُشَمُّ/ كمطرٍ يقبّلُ زهوراً/ في صخورِ الحياة/ ويراقصها/ على تنهّدات النّهدِ الغريب/ وجلبة صمت العيون)
ولسنا إلاّ على يقينٍ أكيدٍ بتفحّصنا لنصوص نهلت أسباب ومحرضات حضورها المعرفي أمام لهفة التلقي، وشوقه للتفرس المتأمل في ثناياها القابعة تحت جلد مستوياتها السيميائية. كما أننا على ثقة تامة بمهارة منتجيها للحضور مستقبلا بنصوص جديدة تفشي عن طاقاتهم وقدراتهم الإبداعية، التي تستبطن المحتمل لكثير من الرؤى التنبؤية، المعلقة في سماواتها الساحرة.