الدكتور سلطان الصريمي
غنــاء: عبدالباسط عبسي
- كتب: د. عبدالعزيز علوان
يا أنتما الشاعر / الفنان ، القصيدة / الأغنية ، كيف تعيدان تشكيل طاقتنا الروحية ، في صور من سحر الخيال ودلال اللحن بكل مقاماته .
التغني قد يكون مصطنعا في كثير من المواقف ، لكن الدخول في تفاصيل الأغنية المكتوبة بالدماء النازفة من قلب الشاعر ، اشراقا صوفيا ، في الملكوت المظلم بالأسى ، لن تكون غير رسم بالكلمات فحسب ؛ إذا لم تجد من بوح الغناء حيوتها ومعالم أصدائها .
أتهيب كثيرا ، عندما أكتب عن قصيدة للصريمي يغنيها عبدالباسط عبسي ، ومع هذا التهيب ، أجدني أضغط على مفاتيح لوحة الكتابه، وأكتب.. عنهما معا ( الشاعر والفنان ) .
في القصيدة الأغنية ياهاجسي ، هذا ( الْخَاطِرُ الَّذِي يَجُولُ بِبالِ الْمَرْءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَبِالأَخَصِّ عِنْدَمَا يَكُونُ بِهِ قَلَقٌ أَوْ حَيْرَةٌ يكاد لا يسمع بين المرء ونفسه) ، هو هاجسنا الجمعي ، الغير منفصل عن إنسانية الإنسان .
منذ أن بدأ الانسان ، يعي كينونته وعلاقته بما يحيطه ، كان الحب والتألف مع الاشياء هو أول محدد من محددات الانسانية.
اإن هذا الهاجس الذي تخاطبه القصيدة الأغنية فينا، ليس إلا صمتنا الانساني في خضم القلق المتأمل في خاطر الذات ، والصابر على ما يجول فيها .
حين يصل الصبر إلى لحظة شاعرية ، لا بد للهاجس من أن يبوح بسؤاله المتضجر في وجه الصبر ، فلم يعد في وسعي المزيد لك أيها الصبر ،لأن الموت قادما من الخلف ( البداية الانسانية ) وآتيا من الأمام ( في الطريق المقابل لقدومنا) كفلسفه ( للموت والحياة ).
تلك أبجديات الفلسفه الأولى للحياة ، أما موت الشاعري فينا وموتنا فيه فتتحدد ملامحه ، بالمسار النضالي للانسان من أجل حياة أفضل ، بعد طغيان الانسان على أخيه الانسان.
هذ البوح الذي تعيده القصيدة الأغنية لأسباب حكمية مفادها ” ان الصبر لايشبع جائعا ولا يخفف من حرارة عطش الظامىء”، وهنا يأتي الفنان ، بإبداع آخر يبدأ من الدندنة الأولى لنبض الوتر ، لينساب بنا ومعنا معراجا الى الأعلى:
ياهاجسي كم انا شصبر
والموت خلفي وقدامي
الصبر مايشبع الجائع
ولايبرد عطش ظامي
بعد دندنات هذا البوح ، نرى ونسمع إنفجار الطاقة الصوتية يمينا مخضبا بجراحات الانسانية، راسما على ملامح كل يوم يأتي من الأيام القادمة خيوط الحب والاحلام .
ففي داخل هذه الذات الانسانية الجمعية ( نار لن تنطفيء حتى بعد إعدامها لأن الإعدام سيطال النفس الفرديه فقط):
يمين لا سمع الدنيا
هدير جرحي وآلامي
وارسم على كل يوم تاتي
خيوط حبي وأحلامي
في داخلي نار لاتطفى
حتى ولو بعد اعدامي
يعود النداء مرة أخرى لهذا الهاجس القلق ، والمتفقه في سلوك الحياة ، ليشير بسبابة الاتهام بالنذاله ( إتباع اسلوب التواطؤ مع الغير ، وأسلوب الرضا بالعار كتفريط بالعرض وهو من الأشياء المقدسة لليمني ).
ويزداد فحش هذا العمل بعلاقة الدودحي ( رمز محلي ) بالمشتري ( رمز خارجي ) ، وكإستدعاء ماضوي لقصة الدودحي الذي رفض تزويج ابنته ممن رغبت فيه ، مما أضطرها إلى التمرد على هذا الواقع ( وهي قصة مشهوره ) وقد صار الدودحي في الأدب اليمني رمزا للبيع والشراء والدودحية رمزا للتمرد.
أكمل الدودحي القصة ، وأدخل المشتري إلى داره ، موفرا له المنام المريح، ومعطيا له الأرض ومحصولها ، (بحجة الجار عون الدار) الذي أنتزع قسرا من سياقه الاجتماعي التكافلي، ليدخل في سياق التواطؤ السياسي بشكل مفضوح القصد والمقاصد :
ياهاجسي نذل من يسكت
ونذل من يرتضي بالعار
الدودحي كمل القصه
ورقد المشتري بالدار
اعطى له الارض والغله
بحجة الجار عون الجار
تأخذنا القصيدة الأغنية بعد هذا المطاف في كونها اللانهائي ، الى تحسرها على تلك ( الجاره) التي عاشت ، حياتها الفقيره تضرب ( الطبله آلة موسيقيه) خلف الزمار ( النافخ بآلة موسيقيه أخرى)،كأعمال يومية ممقوته تقوم بها لتوفير طعامها.
تلك الحياة التي كانت الشوك تملئ رجلها ( قدميها ) دلالة على مشيها حافيا، أما اليوم بعد إن صارت مالكه للكثير من الثروات ( النفطية ) صار في ( قدميها ) مئة مسمار ، دلالة على البذخ الفاحش في كثرة الأحذية :
ياحسرتي ع التي عاشت
تدق طبله قفا زمار
كانت على رجلها شوكه
واليوم فيها مئة مسمار
وحياة كهذه من الرخاء المصطنع ، فإن عيون هذه المرأة ، تسحر الشابع المتخم بحياة اللهو و الطرب . وجسمها يدهش (الجرار) الذي تتحدد مهمته (بالقواده) فقط .
لتنته بنا القصيدة الأغنية في بداية دائرية أخرى لتقول لنا عبر النداء لهذا الثالث لآخر الكامن في الهاجس ، لتؤكد لنا الذات الجمعية التي صدعت بها القصيدة الأغنية ( كلهم قالوا ) دلالة على الاجماع ، بالصدق بانكمل المشوار:
عيونها تسحر الشابع
وجسمها يدهش الجرار
ياهاجسي كلهم قالوا
بالصدق بانكمل المشوار