- ضياف البراق
زملاؤك يكتبون باستمرار عن حبيباتهم، بينما أنت لا تكتب عنّي شيئًا.. أتخاف؟ أتخجل؟ أم أنني لا أستحق قليلًا من نبيذك الأحمر؟ تسألينني هكذا، مِرارًا وتكرارًا، في كل مراسَلة، وكل مكالَمة، لكنّي أتخطّى هذه المساءلة بالصمت أو المزاح. حبيبتي، أنا متمرد على كل شيء، متمرد حتى على نفسي، فلا أخاف، ولا أخجل، ولا أتهرّب من الأسئلة، وما من شيء يهزمني سوى الحب، وأنتِ هزيمتي الوحيدة، والكاملة. أنا في الحب، كما أنا في الحرية، أحب اختراقَ التخوم، وتمزيقَ الستائر، وتجاوُزَ القديم، وعدمَ الانحناء للقيد، وخوضَ المغامرات حتى في تلك الحقول المجهولة، أو المزروعة بالألغام. صحيحٌ، أنا لا أكتب عنكِ، وذلك لأنني أحبك بحرية تامّة، ولأنّكِ أكثر اتّساعًا لي من لُغتي. امتلائي بكِ لا تتسع له الكتابة، ولا تحتمله المسافات الطويلة، ولا ينقص بمرور الزمن. ثم إنّ الحبَّ عندما يُكتَب، لا يعود متوهِّجًا، اتساعه يضيق، ومعناه يردُؤ. فالحب شيءٌ خاص، سِحْرٌ استثنائي جدًا، لا يجوز ابتذاله، ويفقَد هذه القيمةَ الفريدةَ حين يغدو مألوفًا مثله مثل أي شيء. الكتابةُ لا تصل إلى أعماق الحب، ولكنها تلامسه ملامسة سطحية، كأنها تلقي عليه تحيّتها العابرة، ليس أكثر. لذلك، دعيني أحبكِ في صمتٍ عميق، بين ضوء الشمعة وصوت الريح، افتحي أعماقكِ الخائفة لانفجاراتي الصافية والغائمة، انتشليني من رماد الكآبة، احمليني إلى ضفة جديدة، فما أروعَ الفرار من دموية هذه الحرب القبيحة..
أتنقّل باستمرار بين روحكِ وقلبكِ، وبين صداكِ اللذيذ وارتعاشكِ المُرهِق، ليس هربًا من القلق القاتل، ولا طلبًا للرزق، ولكنْ لأنني أحب فيكِ ممارسةَ التعب، وأُحِبُّ معكِ الضياعَ الطويل. وحين يثقب صوتُ الريحِ زجاجَ نافذتي، ليلًا، تخطرين أنتِ على بالي فأذوب حولكِ كالعطر والندى والهذيان. وجهُكِ العذْبُ يُضيئني حدَّ الشفافية، تهتزُّ من خطواتكِ أعماقي الساكنة، فأُحِسُّ أنّكِ الوجود الوحيد في نبضي. أنتِ تجليات حضوري، وأزهار غيابي، والأبجدية النادرة التي أبتكرها في أحلامي، والعشب الذي ينبت حول غرفتي، وينمو في مساماتي. هيّا اقتربي يا أميرةَ الروح، يا أسراري المُزهِرة في عُزْلتي العميقة، إنّي أعشق جسدكِ عاريًا مرميًا على رمل خيالي، وآهاتكِ مبثوثةً في عروقي، مخلوطةً باشتهاءاتي الرجيمة.
أشتاقكِ في هذا الظلام، وتحت المطر، وبين الغيوم والقذائف الطائشة، وأشتاقكِ أكثر حين يهاجمني اليأس، ويضيق عليَّ المكان، أنا الضائع في ملامحكِ الآسِرة، والغارق في انحناءاتكِ الزرقاء، أنا عُمْركِ المُنفلِت من ساعة الحائط، ومعناكِ الذي لا تدركه القواميس، وجميع أولئك المجانين الذين يركضون وراءكِ في الشوارع والأحلام، ليلًا ونهارًا، جميعهم أنا.. فاهدمي معي الأسوار، حطّمي زجاجَ المصابيح، احتضني أمواجي كلها، وارقصي تحت انهياري الكامِل، افتحي سِرَّك لهذا الشيطان المُحترَم، ساعديه على تحرير المكبوت، وكسر المألوف، وترميم العالَم. أنتِ لا تشبهين أحدًا، وإنما تشبهين وجعي المجنون الذي يدفعني دومًا إلى الكتابة، لا اسمَ لكِ، ولن أُسمّيكِ غيرَ اسمي، أنتِ الشاسعة دائمًا مثل هذه المدينة العريقة، لا حدودَ لكِ، كقصيدة النثر، غموضكِ أشهى من الوردة، ذوبانكِ فيَّ أخطر من ذوباني في اليوغا، شهوتُكِ أعمق من الفلسفة، أشتهيكِ دومًا بلا حيطان ومساحيق، وأسافر أبدًا في إيقاعكِ الداخلي الذي يُشْبِهُ همْسَ الصلاة.
يا شجرة تعانقني من خلف الحدود والبحار، يا عاصفة من الأساطير الحُرَّة تنتزعني من التابوت وتقذف بي إلى الآفاق المفتوحة، يا بهجتي الممتدة فوق جسور الأبدية، يا فرادتي المُدهِشَة في عصر التناسُخ المخيف والتكرار المُمِل، يا شفائي الناجِع من متاعِب الكتابة وأزمات الوطن، يا ثورتي الجذرية على كل شيء، يا كمنجتي ضد بشاعة الموت، وبشاعة الحياة، يا مُنتهى أملي.