- يحيى الحمادي
لا امرؤ القيس، ولا الشنفرى، ولا عروة بن الورد، ولا زهير بن أبي سلمى، ولا طَرَفة بن العبد، ولا حتى حاتم الطائي يبقى بالجوار؛ كلهم يَختفون، لا يُرى ولا يُحسّ لهم أيّ أثر،
الصديق لا يَترك صديقَهُ وحيدًا يا أبا تمّام، ولا يتحاشى الرّقيبَ في إغاثته يا أبا الطيّب، ولا يتعامى عن صوته يا أبا العلاء، ولا يلجأ إلى التندّر به يا أبا عثمان، نعم.. أنت بالذات، يا مَن تتناسى أعوامًا في دكاكين الوَرَّاقِين، وأسواق السمك، وتتجاهل -رغم شعورك- حجمَ التعب والسهر الذي سقط عليك.
الصديق الحقيقي لا يتخلى عن صديقه حين يَفقِد مَعناه يا ابن منظور، ولا يحتفظ بالسمن والعسل في الجرّة يا ابن المقفّع، ولا يُلقي عليه الأمالي والنوادر يا أبا عليّ، ولا يُقدّم الخوفَ على التضحية يا ابن هانئ، ولا يتعامى عن الاستغاثة يا أبا معاذ؛ أليس من العار أنّ (زوربا) اليوناني يَطبخ دجاجةً أعلى التّلّ ويُغنّي، و(طاغور) الهندي يُسوّي شاربَه، بعد أن سَوَّى الأعشاب في حديقة منزله، و(بوشكين) الروسي يشاتم السلطات من النافذة، و(غوته) الألماني يلتقط الصور مع السائحات أمام معهده الكبير، فيما صديقُك ما يزال يرتعد خوفًا مِن خطواتٍ أسفل النافذة يا (نشوان بن سعيد)!.
لماذا يختفي الجميع حين تحين أدوارُهُم؟! لقد صَحِبتُ (زرادشت) في كهفه عشر سنوات، وصفّقتُ له حين سخر منه الجميع، وحملتُ معه المهرّج الميت، وأطعمتُ أفعوانَه ونسرَه، وحين جاء وقتُ ردّ الجميل لم يلتفت إليّ، لقد تحوّل -هذا الإنسانِيُّ المُفْرِطُ في إنسانيّتِه- تحوّل بكل سهولة إلى شخصٍ آخَر، شخصٍ يتشبّث برقبةِ حِمارٍ كان يَضربه صاحبُه، ثم يَبكي وهو يقول للحمار: أنا أفهمُك يا أخي.. أنا أفهمُك، ويُصاب بالجنون بعدها ويموت دون حتى أن يَفهمني.
صادقتُ (روسو)، وقرأتُ فكره السياسي والاجتماعي، وأحطتُ باعترافاته، ورافقته في منفاه، وسمعتُ هواجسَه المنفردة، وتذمُّرَه من أصدقائه وأعدائه، وجمعتُ معه الأعشاب في الجزيرة، ومسحتُ الدم عن فمه بعد اصطدامه بالكلب البرازيلي، لكنه في النهاية -ويا للسخرية- اتهمني بالجاسوسيّة، واختفى.
وليس ببعيدٍ صحِبتُ (غاليليو) وكان يبدو لي بادئ الأمر فضائيًّا مصابًا بالحنين إلى وطنه العلوي، كنت مسرورًا به أقول: نِعم المَرقَى والمَلقَى، كنت أقف بجواره وهو يتحدث عن أشياء ليس مِن السهل عليّ تصديقُها ولكنه في كل مرة كان واثقًا من نفسه، كان يتحدث عن النجوم والمجرات، كمن يتحدث عن أبناء عمومته، وكان يُقسِم إن الأرض ليست محور الكون، وأنّ السُّقوط واحدٌ، لا علاقةَ للوزن فيه، وأنّ.. وأن.. ثم ها هو، ما إن سمع بمقتل أحدهم حتى تحوّل إلى منافق بئيس، يَهمس بالحقيقة للبَوّابِ في المَحكمة، ثم يَعكِسها أمام القاضي، ويصاب بعدها بالعمى، ويموت وحيدًا مكتئبًا في منفاه، غير مكترث إن كان أقنعني بذلك أم لا.
تركتُه ورحلتُ إلى (ديكارت)، هذا الملحد الذي حاول أن يزعزع ما تبقى في قلبي من فِطرة القرية، لقد حوّلني على مدى خمسين ليلة إلى علامة استفهامٍ كبيرةٍ، منطويةٍ على ذاتها، لا تثق بشيء ولا تأمن شيئًا، وحين وصلتُ معه إلى ذروة وجودنا الفكري والتفكري، إذا بي أسمعه يُناجي الله في الليل ويَسأله أن يُسِرَّ إليه بالطريقة التي صَنَع بها الكون! قلتُ: يا لك مِن زنديقٍ صوفي، هذا النفاقُ لا يُعجبني، وتركته وقفلتُ راجعًا.
رافقتُ بعده (أرسطو) و(بيرون) و(هيوم) و(سبنوزا) و(كانت) و(راسل) ووووو.. وأنفقتُ أعوامًا من عمري ثمينةً، متوهمًا أن هؤلاء سيقفون جواري، أو سيُلهِمُونني ولو بعبارةٍ واحدةٍ على الأقل، أردَّ بها على السؤال الوجودي والفلسفي الكبير الذي يزداد غموضُه وثقله كل شهرٍ، ألا وهو (أين الإيجار)؟ لكنْ كلهم كانوا يَقفون أمام هذه الحقيقة الكبرى ثم يتسللون من الرفوف ويتوارون عن الأنظار، لا يَبقى معي إلا صوتُ زوربا اليوناني، يتمتم ساخرًا: (كتبك تلك أبصُق عليها، فليس كل ما هو موجودٌ، موجودٌ في كتبك).