- ضياف البراق
كلنا يغرق في طاحونة التراث المُقدَّس، نَعمْ، ها نحن نغرق في دوّامته المريضة أوْ، بالأصح، الجحيمية. الصراع مع طواحين الهواء، أو مع الأموات، لا يؤدي إلى فائدة، ولا يتوقّف عند المعقول. العبث الكامل، هو الصراع مع الجثث. إننا نتطاحن ونتمزّق لهذا السبب الذي لا نعرفه ولا نستفيد منه. مع أن الكثير من تراثنا لا يستحق أن نغرق ونموت في أوحاله التي لا تنشف مع الزمن. يا مرضى التراث، دعونا نرَ الحياة الجديدة لمرّة على الأقل. التقديس كارثة الكوارث.
ولكنهم يقولون لي: في دراستك وعندما تكتب، في حياتك وعندما تموت، يجب أن تنطلق من التراث. لا تأكل ولا تشرب، التراث يغنيك عن كل هذا.
وأقول لهم: طيّب. وأهز لهم رأسي، لكي يصدّقوني ويبتهجوا.
والحقيقة أنني أكره «يجب»، ولكنهم لا يعلمون. ثم إنني أصبحتُ أكره كلمة «تراث»، وأتضايق من ضجيج التراثيين كلهم، ومن الحداثيين الدائرين ليلَ نهارَ حول التراث.
ويقولون: إذا فهمت التراث، فهمتَ كل شيء. ويكرّرون هذا الهراء دائمًا، حتى في نومهم.
فأقول: أحسنتم، وبُوركت عبقرياتكم.
ثم ألعنهم كثيرًا من ورائهم.
ويقولون: هذا التراث هو الطريق الأوحد إلى كذا وكذا وكذا.. إنه السمن والعسل والحليب والدفع الرباعي للوصول إلى هضاب الجنة.
فأقول: نعم، وأنتم أمراضه المستعصية.
ويتكرر هذا القول أمامي أينما ذهبتُ، في الواقع أو في الخيال، في الصحو أو النوم: تقدُّم الأمة يبدأ من إصلاح تراثها.
وأقول: طبعًا.
ويبدأ الإصلاح، وينجح على الورق، ويفشل على الأرض. أو يفشل على الورقِ أولًا، فيجيء تبريرهم بأن الخطأ في الأمة نفسها، وليس في التراث.
ونحن نكرر الجواب نفسه: طبعًا.
وهات يا صياحات متزايدة ومكرورة، حوال التراث والحداثة، صياحات من النوع الذي يخنق أسماعنا وأنفاسنا كلَّ يوم، وهات يا صراعات دائمة، عبثية ودموية، تشتعل بين المتعصبين للتراث والمتعصبين عليه. حتى إننا نسينا إسرائيل. ومن منطلق مراجعة التراث، ومعالجة إشكالياته، يؤلِّفون آلاف الكتب والبحوث، ويخبزون لنا مقالات غزيرة بل بلا حساب، ويعقدون مئات المحاضرات والندوات، اليومية والدورية، الضخمة والطويلة، المحلية والخارجية، ويكررون فيها المواضيع نفسها، والوجوه نفسها، والأحاديث نفسها، فتفشل هذه الجهود مرة بعد مرة، ويا للأسف! وهذه العدمية مستمرة ما دامت تجري على منوال عدم التسامح. إنهم يدوّخون بنا ويدوّخون بأنفسهم. لا يتعبون ولا يخجلون. فالتراث عندهم، هو كل القضية، والصراع معه، أو لأجله، هو أساس كل إبداع وتقدُّم، ويشهد الله أنهم على صواب وعلى خطأ في آن. ومنهم من يصوِّر لنا الحياة أنها مستحيلة بدون التراث، فتظن، وأنت تقرأ لهم، أو تسمعهم، أنك قد خُلِقتَ من تراث، وليس من تراب ولا من ماء مهين.
وتستعِرُ الصراعاتُ بين تيارات هذه الأمة، وتتناحر العلاقات الأخوية، على دربك يا تراث، ومن أجلك يا تراث تسيل دماؤنا، وتتمزّق حياتُنَا، وتتحطم بلداننا، ونغرق جميعًا في أكثر من جحيم.
وهذه المناقشات التنويرية، النبيلة والمشبوهة، اللطيفة والصاخبة، وهذه الدراسات النقدية المتدفقة المُفرِطة، الدائرة بمجملها ومع اختلافها، حول قضايا التراث، كلها عديمة جدوى، وفاشلة، لأنها لا ترغب بأكثر من ذلك، أو لأنها لم تستوفِ شروط نجاحها. وأنا، بشرفي، صار يُغثِّيني أي نقاش عن التراث، ويُعذِّبني أي دوران حوله، ولا شيء ينقذني من هذا الخطر، غير الهروب، فأهرب حتى من تراثي الشخصي، إن وُجِد.
وهذه هي حياتنا البائسة، لقد رثَّتْ بكاملها، بسبب ضجة التراث، وأوهام الغارقين فيه، ومذابح المتصارعين حوله. وأكبر خسارة على هذه الأمة، خصوصًا في المرحلة العصيبة الراهنة، هو استمرار هذا الصراع الدائر تحت مظلة التراث، وإطالة هذا العبث…
إذا أردتَ أن تهزم أُمّةً، أو تهدم طاقاتها وحيواتها، فاشعلِ النارَ بينها وبين تراثها، بين ماضيها وحاضرها، حتى لا تعود تنهض ولا ترى المستقبل أمامها. أليس هذا ما تعانيه الأمة العربية، حاليًا، ومنذ فترة غير قصيرة؟ تُرى مَن أشعل هذه الحرب اللعينة، العبثية؟
وأكبر عدو لهذا التراث، حُرّاسُه، بشدة تطرُّفهم، والمتشدِّقون به، بعقليتهم الجامدة واللامنفتحة. والواقع أنّ السواد من أبناء هذا التراث لم يفهموه على الإطلاق، ببساطة لأنهم لا يعرفونه معرفة عقلية، إنهم لا يقرأون. وهذه معضلة كبرى. ثم يأتي المُجدِّدون، وأدعياء التجديد أيضًا، ويصطدمون كلهم بسدود اليأس والفشل، ويصلون إلى طريق مسدود، ربما لأن أغلبهم يمارس نفس تطرُّف التراثيين أو الأصوليين، أيْ يريد إلغاء كل شيء، أو لسببٍ لا أعرفه الآن. ثم إنّ الترقيع العِلاجي، لا ينفع المريض، ولكنه يزيده أمراضًا.
يا قوم، يا عرب، يا أشقياء، يا مجانين التراث والحداثة من أبناء هذه الأمة الضائعة الممزَّقة، كفاكم صراعًا، خذوا الحل البسيط، أو السخيف، من لسان مجنون مشرد يعيش أيامه على الرصيف، بسببكم، إنه قائلٌ لكم: لا تجعلوا التراث هو كل قضيتكم، فأمامكم قضايا كبرى تنتظركم، تصالحوا ولو قليلًا بنيّة التطور والنمو، لا التحجُّر والانكماش، اختلفوا وتسايروا وسيروا معًا على هدى العقل، لأنه شرط الانبعاث والتطور والتوحُّد، إنه عصر الإبداع والتجدُّد، عصر الإنتاج العِلمي، عصر صناعة المستقبل والمجد بوسائل علمية وأدوات حديثة، وليس عصر اجترار التراث وعبادته والاكتفاء به. اكسروا قاعدة “للتراث دُرْ”، وصيغوا قاعدة “للأمام دُرْ، إلى المستقبل امضِ”. إنه، باختصار، عصر القوة، ولن تكونوا أقوياء، إذا بقيتم في عداء مستمر مرير حول هذا التراث. الخلاصة: خذوا الصالح من التراث واتركوا الطالح الكالح جانبًا، اتفقوا على هذا الأساس، وانطلقوا بسلام، أو لا تتفقوا، واذهبوا جميعًا إلى الجحيم. اسمعوا وعوا: إمّا التسامح والاتفاق، أو المزيد من الخراب والغرق. وأنتم اختاروا.