- محمد ناجي أحمد
ولدت في حارة القاهرة بوادي المدام، في سفح جبل القاهرة، كان ذلك في صباح يوم الأربعاء 19ربيع الثاني 1387هـ/الموافق 26/7/1967م، وأخي جميل ناجي الذي كان من يرانا معا في طفولتنا يحسبنا توأما- ولد مساء السبت ، الساعة الثانية والنصف ، 20جماد الثاني 1388هـ/ الموافق 14/9/1968م.
التحق أخي جميل بعدي بعام في مدرسة ناصر الابتدائية، كنت قويا ومتينا بدنيا وكان ضعيفا، من أراد الانتقام مني لمبارزة حدثت في طفولتنا المدرسية يجد في أخي هدفا سهلا للقضاء. وكثيرا ما كان يتعرض للضرب من الأطفال الذين كانوا يظنونه أنا.
كان شقيا لكنه لم يكن قويا في المعارك اليومية التي كنا نعيشها عديد مرات في اليوم.
في مدينة تعز بداية سبعينيات القرن العشرين كان الطفل إذا مرض بحكة جلدية تقوم الأمهات بأخذه إلى قبر الشبزي، في مغربة تعز، شرق قلعة القاهرة، أسفل الخط الدائري، جوار الحول الذي كان يسمى آنذاك “حول الشامر” وكنا في طفولتنا منخرطين بأندية الحواري نذهب إلى حول الشامر للمشاركة في المباريات بين أندية حواري مدينة تعز، نادي النهضة في حارة المستشفى الجمهوري، وكان لدينا ناد في حارة القاهرة، كنت رئيسه، اسمه “نادي الفكر” وهناك نادي التعاون تأسس بعد ذلك، ربما في بداية الثمانينيات. وناد آخر في الضبوعة، وناد في عقبة 26سبتمر اسمه نادي الأضواء الخ.
عندما أصبت في طفولتي بمرض جلدي أخذتني أمي إلى قبر الولي “الشبزي” كانت الولاية لدى الوعي الجمعي للناس متجاوزة للجدران البينية العالية التي أقامتها الأديان- لأغتسل في الماء الذي يجري جوار قبره. وكذلك لغسل ثيابي. قبر الشبزي إن لم تخني الذاكرة كان في المكان الذي بني فيه في ثمانينات القرن العشرين “معهد خديجة” معهد علمي، وقسم شرطة. وكأن الإخوان المسلمين بتعز ورثوا قبر “الشبزي” ودلالاته في الوعي الاجتماعي بإزاحته وإحلال وعي بديل، بني على ذات المكان، في تداول للمكان ومغايرة للأثر. من دلالته في الثقافة الشعبية إلى الدلالة السياسية لعصر “الصحوة الإسلامية”.
كان أبي يغادر المنزل في الساعة السابعة صباحا، بعد أن نتناول “القراع” الصبوح يتجه نحو المدينة في طريقه إلى عمله في مشروع المياه، يتوقف في بوفية “الشميري” جوار السوق المركزي، ليشرب “قلص” شاهي حليب، ويقتني صحيفة الشرق الأوسط ثم بعد ذلك صحيفة الحياة واعتقد صحيفة القدس صدرت بعد ذلك، ويأخذ صحيفة الجمهورية، يقرأ في تلك الصحف عناوينها في الصفحة الأولى وتفاصيل الأخبار في الصفحة التي تليها ثم يتجه من طريق عقبة شارع جمال نحو عمله. كان يعود من عمله الساعة الحادية عشرة ليلا، يعمل في مشروع المياه ثم يعود ظهرا ليبدأ عمله في سينما بلقيس المصلى، ليعود ليلا، يشرب “بوري مداعة” ويستمع للإذاعات العالمية، لينام بعد ذلك، مكررا ذلك الدوام الشاق، إضافة إلى عمله في ضرب الحقن، كان معلم بناء دقيق في بنائه وإن كان بطيئا في الإنجاز.
يبدو أن إعالة سبع بنات وثلاثة أولاد جعلت أبي ينمي لديه ذكاء اجتماعيا في مراكمة المودة والصحبة الاجتماعية، كان يفر من الاشتباك بالمشاكل، وبالتالي يفر من أي التزام سياسي رغم مشاعره القومية والناصرية بالتحديد. لكنه كان صديق الجميع، فليس لديه متسع من الوقت يجرفه عن ساعات عمله الطويلة التي لا يجد فيها فائضا لأي التزام. لهذا كان حذرا من أي تبعات توقعه في المشاكل الاجتماعية أو السياسية.
يبدو لي أن أخي أحمد ناجي ورث من أبيه هذا الذكاء، مسطرة الحياة السياسية والاجتماعية، وعدم الانجرار في تبعاتها وضريبتها.
أمي شجاعة ومقدامة ولا تأبه لحسابات المسطرة عكس أبي ذكي وحذر، منه ورث أخي أحمد، ومن أمي ورثتُ وإن كنت على سعة فهم وإدراك لذكاء أبي لكنني اخترت إقدام أمي، وربما ليس اختيارا، وإنما إرثا تشربته منذ شكلت جنينا في رحمها.
أمي كانت اجتماعية، تنخرط في مشاكل محيطنا في الحارة، وتنحاز للزوجات ضد أزواجهن، وبالتالي تتحمل عداء الأزواج ضدها. كل نساء الحارة كنّا يحرصنا أن تكون أمي حاضرة وقت مخاضهن، وربما تقضي ساعات طويلة مشجعة لهن كي يولدن أطفالهن بشكل طبيعي.
كانت مغامرة ولا تحسب حسابا لما سيترتب على قراراتها.
أتذكر بعد فشل حركة 15أكتوبر1978، كان منزل هاشم علي عابد مراقبا وقبيل ان يتم تفتيشه، كانت زوجته قد أودعت لدى أمي مسدسا أو أكثر ومبلغا من الدولارات، وأمي أخذت الوديعة، وبعد معرفة أبي للموضوع بفترة ليست قصيرة كانت مشكلة لم تنته إلاَّ بعد إعادة تلك الوديعة.
في طفولتي تأثرت بصريا بمكتبة هاشم علي عابد في منزله، مكتبة فخمة ومكتب في غرفة كأنها غار نبوة يعتزل فيها مستلهما أفكارا مهمة ومصيرية، كذا كنت أتخيله… كان وقتها رئيسا لتحرير صحيفة مارب.
هو أحد القيادات المؤسسة للتنظيم الناصري في اليمن، وشارك في دورات تثقيفية وتنظيمية في تنظيم الطليعة العربية في مصر، أواخر ستينيات القرن العشرين، وكان أمين سر فرع اليمن.
كان مستأجرا لمنزل بسيط في جولة وادي المدام، ملاصقا للمقبرة، ملامحه حينذاك كانت تشي بزمن جمال عبد الناصر، صموت وعميق مع شبه في ملامح الوجه لجمال، هكذا كان يبدو لي، بعد ذلك وجدته يدير السياسة بـ”المخافسة” ربما هذه الطريقة تشكلت بفعل زمن القمع وتجريم العمل السياسي والحزبي، لكنها ظلت الطريقة التي جُبِل عليها جيل المؤسسين ومن تربى عليهم .
زوجته رحمة الله تغشاها- كانت أما ثانية، لطالما منحتنا طيبتها وطعامها. أتذكر في إحدى الأيام كان لابنتها كفاح وابنها مراد-أصبح مراسلا لقناة الجزيرة في الولايات المتحدة- سيكل أبو ثلاث عجلات، كانوا نحافا ويصغرونني في السن، وكنت سمينا ومتينا، ما إن جلست على السَّيْكَل حتى انكسرت قصبته الواصلة بين الكرسي “والسُكَان” كنت خائفا من رد الفعل لكن ضحك زوجة هاشم الممزوج بترديدها لعبارة “ما شاء الله” جعلني أطمئن.
أول مرة في طفولتي استمعت لصوت أيوب طارش مع أمي ، كانت تدندن مع صوت وإيقاع أيوب في أغنيته التي تبثها الإذاعة آنذاك، ربما كانت “أغنية دق القاع دقه” كانت أمي تترنم مع صوت علي الآنسي أكثر من صوت أيوب، وكنت في تلك المرحلة من الطفولة أستثقل صوت الآنسي ، حين كبرت في السن وجدت صوت الآنسي والحانه بحاجة إلى سن نضوج أكبر، على عكس الصوت الريفي لأيوب وإيقاعه المكرور، الذي يماثل رتابة الريف.
بل إن بساطة الصوت واللحن لدى أيوب من وجهة نظري جنت كثيرا على الثراء الدلالي والتصويري والحسي لشعر عبد الله عبد الوهاب الفضول.
عبقرية الفضول من وجهة نظري امتصاص جمالي للأمكنة والثقافة اليمنية المدينية التي تشكل فيها. عاش طفولته في مدينة صنعاء القديمة، ودرس فيها مزاملا للقاضي محمد إسماعيل العمراني في تلك السن، ثم عاش في عدن إبان الحراك السياسي والنقابي والتحرري خمسينيات القرن العشرين، ثم عاش في مدينة تعز ومدينة التربة، ومن هذه الأمكنة وجمالياتها كثقافة تتضمن التعدد الوحدوي كانت شعرية الفضول الفائضة والمتجاوزة لرتابة إيقاع وصوت أيوب طارش، وفضائه الريفي.
في طفولته؛ أي الفضول، حين كان أبوه عبد الوهاب نعمان في الإقامة الجبرية بصنعاء بسبب اشتراكه ودوره الرئيسي في التخطيط لحركة 1922م التي أريد منها استقلال لواء تعز، ابتداء من قضاء “إب” وصولا إلى “زبيد” لتكون سلطنة محمية بالاستعمار البريطاني في عدن. ويبدو أن الحاكم البريطاني في عدن أبدى موافقته الأولية وحين تمت العودة إلى الحكومة البريطانية كان رأيها أن تعز ليست ذات أهمية في الاستراتيجية الاستعمارية لبريطانيا في المنطقة. لهذا كانت نتيجة الحركة الفشل، لعدم وجود دعم خارجي ولأن المساوى وأحمد الباشا “أحمد المتوكل” أحد أحفاد الإمام القاسم، وكان عين أعيان تعز، وفي بيته تم التخطيط للحركة، ويبدو أن المساوى كان من كتب الخطة، لكنهم في ذات الوقت تواصلوا مع الإمام يحيى والأمير علي الوزير فكانت النتيجة أن أُلقي القبض على مشايخ عديدين من الحجرية وإب وحبيش والعدين، وتحمل الشيخ عبد الوهاب نعمان تبعات تلك الحركة، فالتواصل مع الإنجليز عن طريق سلطان لحج يبدو أنه من قام به.
بعد فشل حركة 17فبراير 1948م سأل أحمد الشامي، صاحب “رياح التغيير” الشيخ عبد الوهاب عن موضوع التواصل مع الإنجليز لكن الشيخ وقد كان بينه وبين استدعائه للإعدام بضع لحظات أقسم بعدم التواصل مع الإنجليز، وبعد مصالحة أحمد الشامي وعودته لحضيرة الدولة المتوكلية أراه الإمام أحمد مخطط الانقلاب ومراسلات عبد الوهاب مع سلطان لحج والإنجليز، وقد كان الإمام احمد محتفظا بها في خزانته.
حين حرّض بعض المقربين من الإمام يحيى على السيد احمد المتوكل ، وهو بالمناسبة جد الأستاذة أمل الباشا، رئيسة منتدى الشقائق، وعلى القاضي المساوى، وهو جد القاضي “احمد المساوى” أحد ركائز الحوثيين في إب وتعز – وطالبوا بضرورة معاقبتهما لاشتراكهما في “المؤامرة” كان رد الإمام يحيى ” ولا يُضَآرَّ كاتب ولا شهيد”!
ويبدو أن دور “أحمد الباشا” تكرر مع ابنه “محمد الباشا” في حركة شباط 1948م، فقد كان موكلا له وغيره اغتيال سيف الإسلام أحمد في تعز، ولم يتم التنفيذ، بل كانت تحركات سيف الإسلام أحمد من تعز مرورا بالحديدة ووصولا إلى “حَجَّة” على علم بتفاصيل ما رتبته الحركة بخصوصه!