- ضياف البراق
عشقي لمِصْرَ يفوق تحمُّل الكتابة، شغفي بها لا ينضب ولا يَبْلى. لا أنام عنها ولا تنام عنّي. والغوص في أعماق هذه الأُمّ الحبيبة، يطول دائمًا، يزداد جنونًا ويتعمّق مع الأيام. في كل حبة تراب مصرية، ينغمس قلبي وينبت منها. مصر، طينُها لا ينشف لأنه شِعْرٌ خالِص. نبضُها دليلٌ ومعنىً، وهواؤها دواءٌ وسِحْر. صخْرُها الصلب يتكلّم، يُغنّي، يشير إلى عمق الحقيقة، مؤكِّدًا على استمرارية التحدي والنصر. وفي غبارها، في رِيحها، في مائها، في كل أشيائها وانفعالاتها، تجري الحياة بصورة فريدة مُدهِشَة.
كل أصدقائي وأهلي يحبون مصر. في البيت نحبها، وفي الشارع نحبها. ونحبها في شتى الأزمان وشتى الأماكن. ونحب أيضًا عشّاقَ مصر أينما كانوا. مصر كبيرة في التاريخ، وكبيرة في نفسها، وكبيرة خارج حدودها. ويحزنني الآن أنني نسيت أقوال هيرودوت عن مصر. ويحزنني أكثر من ذلك، أن قلمي عاجزٌ عن معانقة “إيجيبت” بشكل عميق ولائق. ترابها الطيّب لم تلمسه حقيبتي حتى اليوم، ولم أشم هواءها المُنعِش بأنفي. ولكن، عزائي الوحيد أنني أعرف عددًا كبيرًا من مبدعيها الكبار، معرفة ثقافية عميقة، من خلال قراءة مؤلفاتهم ومشاهدة أفلامهم ومتابعة أخبارهم. والحقيقة، أنا أشعر في نفسي بأنني من مواليد نفس القرية أو القلعة، التي وُلد فيها شاعرُنا الثوري العظيم أمل دنقل. إذن، فأنا غصنٌ من أغصان مصر، ونبضة من نبضاتها، ولا أشك في ذلك. نَعمْ، أنا واحد من أبناء جنوب مصر البسطاء.
مكتبة جدي في القرية، لا تخلو من صفحات مصر ولا من أنوار تاريخها العريق. وعلى جدار جدتي، صورةٌ مجسمة للزعيم جمال عبدالناصر، معلّقة من سنين. وفي اليمن عمومًا، نجِدُ جُدُرًا كثيرة تحمل صورة ناصر. مصر محمولة أو مزروعة في القلب اليمني كله، لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها.
عندما تفرح مصر، نفرح نحن حتى البكاء. وعندما تتقدم هي، نحن نتقدم. نكون بها ولا نكون إذا انبعدنا عنها. ونحن نتحطّم إذا انكسرت هي. وحقيقتها أنها لا تنكسر أبدًا، لأنها المنبع والأصالة والتقدُّم الحقيقي. الفراعنة لا يموتون، لأنهم على الدوام يخترعون الحياة من المستحيل، أو حتى من الهباء، أو من الرماد، المهم عندهم عدم الاستسلام والخضوع. والفرعونية عَراقة وصلابة، حضارة وتحضُّر، حكمة متطورة وخلود متدفق.
مصر هي شرْطُ وجودنا، روح العين العربية، مركز قوّتنا، قلعتنا الشامخة وحصننا الحصين. نَعمْ، هي مصر التي سبق وجودُها التاريخَ، كلَّ التاريخ، فكانت أوّلَ شمس تبزغ من صميم الأرض ساطعةً على العالم، وكانت أوّلَ وردة تنمو فينا، وتتفتّح علينا، ولا تذبل.
بدأت الحكمة في مصر، ثم انطلقت وانتشرت.
والعبقرية أيضا ولدت فيها.
النقش بدأ فرعونيًا، والدهشة هندسة فرعونية وابتكار فرعوني. قديمًا، أي قبل الميلاد بزمن، أخناتون ألغى تعدُّد الآلهة، وجعل العبادة واحدة. التوحيد إذن إنجاز مصري قديم. ولا تتوحد الأمة العربية بغير جهود مصر. ولا عروبة قوية إلا بمصر. قف أمامها خاشعًا، خذها بقلبك، بعشق وفخر، ثم اجعل دمك يختلط بدمها، إنها عظيمة جدًّا وتستحق أن تُقدَّس.
إذا عرفتها عرفتَ نفسك وقيمتك.
وإذا عانقتها أعطتك الدفء والأمان.
وها هو التاريخُ ينطق بالحقيقة قائلًا: في البدء كانت مصر، ومن أعماق مصر انفجرتِ الحياةُ وأزهرت. ولذلك سُمّيت أُمَّ الدنيا، وستبقى هي أُمَّ الدهشة والعظماء.
هي شمسنا دائمة السطوع، غزيرة العطاء، لا تغيب ولا تنكمش وراء السحاب. دعونا نتنفَّسها إلى آخر مدى، لكي لا ننقرض. هي وحدها قصيدة الحب الحقيقية، التي نُقشِت على جبين قلوبنا، في إتقان عميق، فعاشت فينا ورفرفت عاليًا، وتعيش فينا وترفرف يومًا بعد يوم. كلنا يؤمن بمصر، يعقشها بصدق غزير حتى يذوب فيها. كلنا يحملها في أحلامه ونبضاته وخطواته وهمومه.
مصر تعطي أكثر مما تأخذ، تُخان ولا تخون، لأنها نزيهة ومُخلِصة، وتتجلى حقيقتها في طيبة أهلها الكرام. المصريون طيبون وصادقون، مبدعون وأقوياء، وربما يتعثّرون قليلًا، في الظروف القاسية، ولكنهم لا يتجمّدون ولا يسقطون ولا ييأسون من الحياة. إنها أم الدنيا تمنحك الفرح وتخفي حزنها. لا تتخلى عنكَ بل تضمّك إلى حضنها حتى حين تكون مُتعَبة.
تسقطُ الحياةُ وتبقى مصرُ شامخةً، كما عرفها التاريخ. ويتهرّأ التاريخُ ويتمزّق، وتبقى مصر أصيلةً، جديدةً وموحَّدةً.
ويأتي الموت وتهزمه مصر.
وتأتي العاصفة الخبيثة وتنحني لمصر.
ولو جاءتني جُثّةٌ من الصحراء، ذات يوم، في النوم أو اليقظة، وخدعتني قائلةً: أنا مصر، هبني حياتك، لوهبتها نفسي بكل ما فيها من نبض وأعطيتها كلَّ شيء وفرحتُ لها. مصر لا تموت. مصر هي المحبة.