- محمد ناجي أحمد
مهازل التاريخ تتكرر بمأساوية كثيفة، لأن موقع وموضع الجغرافيا هي من تنتج هذا التكرار.
المهزلة السوداء ليست خارج معطف المأساة، بل هي مُولَّدَة لها، بصور شديدة الكارثية وأكثر قهرية.
في عام 1969 يحدثنا المرحوم اللواء يحيى مصلح مهدي في مذكراته أن نظام جمهورية 5نوفمبر كي يصل إلى تمهيد الملعب لتسيد النظام السعودي على اليمن، كان لا بد له من أن يعمل على إسقاط لواء صعدة لصالح القوات الملكية التي تتحرك وفقا لرغبات ومصالح النظام السعودي. وقد أدت قوة خمر من مشيخ سياسي وديني وعسكري وتجاري هذا الدور، فكان سقوط صعدة إخضاعا للرئيس عبد الرحمن الإرياني كي يقبل بمداولات مارس وصولا إلى تسوية واتفاقية مايو 1970، والتي عُرِفت بالمصالحة الجمهورية الملكية. وتم وفقا لتلك التسوية إزاحة المزاح، أي بيت حميد الدين، وتعيين بعض الملكيين كأحمد الشامي في المجلس الجمهوري وعبد القدوس المصري وغيره في الحكومة، كمرحلة انتقالية تم بعدها إزاحة الملكيين نهائيا بعد ان تم الوثوق بقوى خمر في صياغة نظام جمهوري قبلي، أي صيغة قشرتها جمهورية ومحتواها “الدولة الإسلامية” التي وضع النظام السعودي أسسها وخطوطها في اتفاقية الطائف، التي وقع عليها أركان المشيخ المعبر عن مقررات مؤتمر خمر.
وقوى خمر تتمثل بالمشيخ السياسي والإخوان المسلمين والعديد من الضباط والبعثيين والبيوتات التجارية. أي تحالف القبيلة السياسية والإسلام السياسي والعسكر والتجار والبعث.
البعث الذي اختار طريق الانحياز للقوى المشيخ نكاية بجمال عبد الناصر، من خلال قرارات المؤتمر القومي الذي عقد في عدن عام 1963م.
لكن القول سيرا على بعض الكتاب بانحياز البعث لقوى الإقطاع وشبه الإقطاع في اليمن نكاية بجمال عبد الناصر يحتاج إلى استقراء، فبنية حزب البعث العشائرية والبدوية، وأوهامه عن عروبة نقية من الاختلاط بالآخر الغربي، والرحم النقي في تنظيرات زكي أرسوزي، يدفع إلى هذه النتيجة، فالمقدمات البدوية لا تنتج سوى اصطفافات رجعية.
اعتاد النظام السعودي على إعادة ضبط النظام في صنعاء من خلال “صعدة” استنادا إلى المشيخ السياسي والديني والضباط والتجار داخل نظام جمهورية 5نوفمبر.
في ما ذكرته سابقا من سياق لسردية صعدة عام 1969م أعتقد أن الحركة الحوثية التي انطلقت من صعدة طيلة الحروب الستة مع بدء الألفية الثالثة، ومن تأويل اثنى عشري، وولاية الفقيه من البطنين، للمذهب الزيدي- استهدفت النظام الجمهوري من ناحية، والوجه العقلاني المعتزلي في المذهب الزيدي من ناحية أخرى.
ما كان للحركة الحوثية أن تحصد نتائجها في الاستيلاء على السلطة في صنعاء والعديد من المحافظات الشمالية ما لم تجد العون من المشيخ السياسي والديني والعسكري والتجاري داخل نظام رؤوس الثعابين النوفمبريين!
إن الصراع في جوهره بين الشعب الذي أنتج ثورة 26سبتمبر و14أكتوبر و22مايو، وبين النظام السعودي الذي يرى في هذه المحطات الثورية نقيضا ونقضا له، معبرا عن تناقضه مع هذه المحطات الثورية والوحدوية من خلال تحريكه لقوى خمر ونظامهم السياسي الممثل بجمهورية 5نوفمبر وصورها العديدة، وبالإمامة التي يعاد إنتاجها بمزيج من اثنى عشرية وولاية الفقيه والتسليم بخرافة الولي المصطفى عرقيا بما هو تكثيف للعنصرية السياسية والاجتماعية، التي تلتقي مع النازية في هاوية العرق، ومع الصهيونية في أوهام الخيرية، وتتجاوزها في ضيق عرقها وأوهام خيريتها المستلبة للإنسان، كونها لا تسع لصياغة شعب في صورته الآرية، ولا الشعب المختار في صورته اليهودية، وإنما اختزال الناس بالولي المصطفى في خيريته “خيار من خيار” أي استمرار دائرة النفي العرقي في ذروة ساديتها العنصرية، كونها تجليا للإله بما هو صورة تتجلى بالاصطفاء للقائد في جيناته المحصورة بالبطنين!
كانت الزيدية في اليمن ممثلة بحيى بن الحسين الذي استقدمته صراعات القبائل عام 281-285هـ- معتزلية في مذهبها الكلامي، وحنفية في فقهها السياسي، ومن معطفه جاء الشيء ونقيضه: المطرفية والجارودية.
إن الحوثية لم تستهدف الجمهورية والوحدة اليمنية فحسب، لكنها استهدفت المذهب الزيدي، في تجريفها وتحريفها له باتجاه فكر “ولاية الفقيه” والولاء والاصطفاء في الحكم والثروة. أي نقض لفكرة التعدد الذي يثري الوحدة فقها وكلاما وجغرافيا ومواطنة.
جاءت المطرفية (نسبة لمطرف بن شهاب)، فلم تقل بحصر الإمامة بالبطنين، وإنما في الأقدر والأفضل في تحقيق العدل والخير للناس. وهو قول على النقيض منه ما قال به الإمام عبد الله بن حمزة، الذي مارس القتل والتفسيق والتكفير لكل من لم يسلم بالإمامة في البطنين. وهنا كانت المطرفية هي الامتداد لمدرسة الهادي يحيى بن الحسين، الذي لم يقل باحتكار السلطة في البطنين، ولم يفسق أو يكفر من لم يقل بالإمامة والوصية، فقد كان فكره متماثلاً مع المعتزلة، وكان يعين القضاة من الحنفية على الجهات والنواحي التي تخضع لسلطته. ولهذا يرى البعض أن المطرفية هي الأكثر التزاما بنهجه الكلامي وموقفه من الخلفاء.
ترى الباحثة سلوى علي قاسم المؤيد، في رسالتها المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، أن مذهب الإمام الهادي يحيى بن الحسين تميز بـ: استقلاله بمذهبه في الأصول والفروع، ومخالفته زيد بن علي، وسائر علماء عصره، انطلاقا من أفكار شيخه أبي القاسم البلخي البغدادي المعتزلي.
إن أساس الإمامة في الزيدية هي الدعوة، وتثبت بالعقل والاختيار.
تطورت الإمامة الزيدية في اليمن بحسب مقتضيات السلطة وتدبير الملك، بمعنى أنها لم تكن فكرا جاهزا وإنما تدويناً لمسار تاريخي في اليمن. ومن هنا كان التباين والاختلاف بين الأئمة وأفكارهم، وهو ما يجعل رؤية الدكتور عبد الكريم جدبان للإمامة على أنها ليست أصولية قطعية، وإنما مسألة اجتهادية، مما يعني أنه لا يترتب على منكرها أن يفسق أو يكفر، امتداداً لهذه المدرسة التي تثبت الإمامة بالعقل والاختيار. وعلى هذا النهج كانت إمامة يحيى بن حمزة في القرن الثامن الهجري والإمام عز الدين بن الحسن في القرن التاسع الهجري والإمام محمد حميد الدين ويحيى حميد الدين والإمام أحمد ومحمد البدر، يحكمون وفق مقتضيات السياسة لا قطعيات المذهب. وبحسب المطرفية فإن “الإمامة تقوى”.
بحسب الباحثة سلوى علي قاسم المؤيد في بحثها سابق الذكر فإن الموقف من فكر الإمام الهادي يحيى بن الحسين انقسم إلى رأيين: فالمطرفية لا ترى في الإمامة أصلاً من الأصول، كما لم يؤمنوا بأن الله أوجب للأئمة مثل الذي أوجبه للأنبياء، فلا الخطاب القرآني يؤيد هذا القول الذي تزعمه بعض الزيدية، ولا واقع الممارسة السياسية المعاشة للأئمة في اليمن يعززه. ويأتي على النقيض من هذا الموقف ما سار عليه الأئمة: القاسم العياني وأحمد بن سليمان وعبد الله بن حمزة وآخرون.
في بداية الألفية الثالثة كانت حركة حسين بن بدر الدين الحوثي في صعدة، وشعاره المنسوخ عن الخمينية “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل”، ورفض “التبعية” لهما، حينها وجد علماء الزيدية ومثقفيها وسياسييها في الحركة الحوثية خروجا عن مبادئ الزيدية وأصولها، وتوجها اثنى عشريا يفقد الزيدية قربها من المذهب السني، بل ويستهدف يمنيتهم، فالإمامة في اليمن اكتسبت استمراريتها كنظام إقطاعي في التاريخ اليمني، دون أن يتلاشوا كغيرهم من الأنظمة المنافسة لهم كون الإمامة قطعت كل صلة لها بغير الانتماء لليمن، لكن الحوثية تحدث فرزا خطيرا تجاه هذه الميزة ميزة الصيرورة كيمنيين ، لتجعل منهم أبناء الله في مقابل أبناء اليمن- وأصدر علماء الزيدية بيانات نقد وتنديد ضد حركة حسين الحوثي شعاره وخطابه المنقول عن الخمينية.
حين انتصرت الحركة الحوثية واستولت على السلطة في العاصمة صنعاء والعديد من محافظات الجمهورية سار علماء الزيدية وسياسيوها ومثقفوها خلف راية الحوثي ورددوا صرخته، متهالكين على المغانم، لكنهم عند المغرم سرعان ما يصبح الأخ عدواً لأخيه، وتلك من سنن الاجتماع. ففي كل حركة سياسية عند المغنم يتزاحم الجميع، وعند المغرم تبقى الخرافة عزلاء عارية من كل قشورها وأرديتها، سواه العدم رداؤها الأخير، وإن كان لا شيء يفنى وإنما يتحول من حال إلى حال…
الطبيعة البشرية كما يرى المفكر علي الوردي في كتابه آنف الذكر لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فهي كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة، ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جُبِل عليه ذلك الشيء من صفات أصلية. يقول “كوبان”: “لكي تسيطر على الطبيعة، يجب عليك أولا أن تدرسها، فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة المحيطة به”. ص6- علي الوردي: وعاظ السلاطين، دار كوفان، لندن، ط2، 1995م، ص56.
ليس العامل العقائدي هو الحرك الوحيد للجماعة الحوثية، فهناك عديد عوامل سياسية داخليا وإقليميا ودوليا خدمت التمدد الحوثي، ويبدو لي أن انكماشها لن يكون إلا بتغير البوصلة الإقليمية والدولية تجاه الحركة الحوثية. فالقول بأنها حركة زمام أمرها في إيران يغفل أن الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات وقطر ذو نفوذ في هندسة الصراع الطائفي في اليمن.
لا يمكن أن تكون سلطنة عُمان بوابة للعلاقات الخارجية للحركة الحوثية دون أن تكون الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل والمملكة السعودية هم من أوجد ذلك الفضاء لتتحرك فيه ومنه الحركة الحوثية مع المجتمع الدولي.
يعلق الشرفي على أحداث 656هـ/ 1258م بحسب ما تنقله الباحثة سلوى علي قاسم المؤيد في بحثها المقدم لنيل درجة الدكتوراه: “ولعبت ظروف القحط التي عاشتها المنطقة، وأموال السلطان، دوراً رئيسياً في انحراف الناس وتكالبهم على حرب الإمام أحمد بن الحسين”. ويعلق الشرفي على أحداث تلك الفترة بقوله: “وكان الأغلب على الأشراف وغيرهم من القبائل الميل إلى الدنيا وإلى الشهوات العاجلة، فمرة يقومون مع الإمام ومرة مع السلطان” (ص60)، والمقصود بالسلطان آنذاك سلطان بني رسول…
صنعاء-18-3-2021.