- نجلاء القصيص
كان ذلك اليوم الأسوأ في حياتها. لم ولن تستطيع نسيانه مهما حدث، وإن تظاهرت بخلاف ذلك..
اعتدلت في جلستها مقابل شرفة غرفتها..مدت يدها المنهكة، كحقل أرهقته قساوة الخريف، إلى فنجان القهوة الموضوع أمامها، انهمكت بقراءة رواية جديدة أحست أن البطلة تشبهها كثيرا..سافرت تسترجع حياتها البعيدة، كانت حياتها منذ
زمن بعيد مختلفة بكل تفاصيلها، عشقت فيها رائحة الأمل المنبعث كدخان صعد
للأعلى ذات يوم ثم اختفى خلف وجع القدر..
لا تزال تتذكر ذلك اليوم بالتحديد حين خاطبها بكل ما أوتي من رجولة قاسية- ككل الآباء الذين يرسمون مستقبل أبنائهم نياية عنهم-:
– سترتدين ثوبك الأبيض دون نقاش وستبدين أجمل عروس في الحي..
– لكن أنا لا أرغب بالارتباط، كل ما أريده إكمال دراستي الجامعية.
– صه. الجمعة ستكون الزفة.
– ولكن يا أبي..
– انتهى الأمر!
تركها غارقة في أحزانها وصدمتها وغادر.
ركضت في الفضاء الواسع، تعلقت بقشة نجاة هشة حين استنجدت بوالدتها وإخوانها لكنهم خذلوها بصمتهم.
سِيقت إلى بيت الزوجية كما تساق البهائم، في بادئ الأمر كان زوجها حنونا
معها، ومع مرور الأيام بدأ قناعه يسقط شيئا فشيئا، فمعاملاته لها أصبحت
مشبعة بالإهانة والضرب، الشك يطارده كخياله مع كل تصرف تقوم به..
عاشت أيامًا صعبة فيها من الألم ما يكفي مدينة مزدحمة بسكانها…
بعد سنوات، وفي ذات مساء مشبع بالحزن توفي زوجها الستيني، إثر جلطة دماغية تاركا جنينا نائما في أحشائها..قلبت الصفحة الأولى من الرواية دون النظر إلى سطورها. صبت فنجان قهوة آخر، ارتشفت منه رشفة ساخنة لعلها تشعر بالدفء يسري في أوصالها؛ فتلك الذكريات تجعلها تتعرق وتجعل نوبات البرد تتسلل إليها..
عادت محملة بخيبة أمل إلى أسرتها وبيدها طفلة لم تتجاوز العام. هذه المرة أغلقت على نفسها أبواب الحياة…نذرت ما بقي لها من عمر لطفلتها.
والدها هو الآخر توفي بحادث سير في طريق عام..
والدتها لحقت به بعد أعوام..تزوج إخوانها وأصبحت لهم حياتهم الخاصة. صغيرتها انشغلت عنها بالمدرسة..
في ظل وحدتها القاتلة لجأت إلى تلك الطاولة في غرفتها التي تحوي مكتبة؛ تقرأ روايات وكتب عتيقة وتبحر معها إلى عالم الخيال تعيش أحداثها وكأنها أحد أبطالها..اتجهت نحو الشرفة بعدما أقفلت الرواية التي بين يديها وارتشفت آخر قطرة قهوة في فنجانها. تسلل بصيص الضوء بهدوء في أرجاء المكان ناشرا سكينته على الغرفة ممتدا إلى ظلمة قلبها الوحيد محاولا محو أتربة الماضي العالقة في أوردته…
٢٠١٩/١٠/٢٥