- كتب: صبري العزعزي
فجأة.. وبنغمة رحيمة، تأذن الأقدار بانْتِقَال عبدٍ من عبادها الصالحين في مكة المكرمة، وقبيل أذان الفجر، وهو في أطهر مكان وأزكى أوقات السَّحَر. استجاب داعي الرب، فغادر الدنيا وقلبه ممتلئ بشوق اللقاء.

لقد رحل الداعية الرباني الشيخ المهندس محمد المقرمي، تاركا وراءه صمتا أبلغ من ألف كلمة، صمتا يهتف بفقدان نبعٍ من أنقى ينابيع العلم. بكاه اليمنيون على اختلاف مذاهبهم وأطيافهم، في أعظم شهادة على أن هذا الرجل لم يحمل في دعوته إلا ما يجمع القلوب على الخير، ويوحد الصف على التقوى. لقد نجح حيث فشل الكثيرون؛ لأنه لم يكن حامل لواء، بل كان حامل قلب.
رحل المهندس المقرمي تاركا خلفه قلوب الملايين في اليمن وخارجه تئن من فراقه. ذلك الرجل الذي حوّل حياته من هندسة الطيران إلى هندسة القلوب والأرواح. كانت دعوته لا تحمل إلا راية القرآن، فاستطاع بصوته الهادئ، وتدبره العميق، وربطه العجيب لآيات الله، أن يلملم الشتات في النفوس قبل الأوطان. كان يمشي على الأرض بقدميه، لكن قلبه وعقله كانا في السماء. لم يكن صاحب منصب رسمي، ولا زعيما سياسيا، لكنه كان شيخ القلوب بلا منازع.
لقد بكيناك يا شيخنا.. وبكاء الأحرار غالٍ
نعم،بكيناك لأنك كنت المنارة في ليل اليمن الطويل. بكيناك لأن دروسك كانت تنير العقول، وتذكي القلوب، وتعيد للأرواح طمأنينتها. علمتنا أن نثق بوعد الله حتى عندما تعجز عقولنا عن إدراك المخرج. كنت النموذج الذي جمع بين العلم الشرعي العميق، والحكمة في العرض، والتواضع الجم، والخلق الرباني.
ولكن.. أتظن أن المحبة في القلوب تكفي؟
ها هو صوتك يرن في آذاننا: “لا تكن حبيس الكلام، كن فاعلاً”. لذلك، فإن أعظم رثاء نقدمه لك اليوم ليس مجرد كلمات تنثر على صفحات التواصل، ولا دموعا تجف مع جفاف الحبر. أعظم رثاءٍ لك هو أن تتحول دروسك إلى منهج حياة، وأن تتحول استنباطاتك إلى سلوك يومي.
- المحبة توجب الاتباع، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. فحبك الحقيقي، يا شيخنا، يقتضي أن نتبع نهجك في التدبر، لا أن نقتصر على الاستماع.
•المحبة توجب العمل، بأن نجعل من قرآنك الناطق حكماً على حياتنا، ونوراً نهتدي به في ظلمات المشكلات.
•المحبة توجب التوحيد، فكما أجمع اليمنيون من جميع الانتماءات على محبتك، يجب أن يبقى هذا الجمع على منهج الحق الذي دعوت إليه، لا أن يعودوا إلى سابق تفرقهم.
لقد علمتنا أن القرآن ليس كتاب تلاوة فقط، بل هو “برنامج حياة”. فهل نرضى لك بأن تكون ذكراك مجرد “حدث” نعبر عنه ثم نمضي؟ أم أننا سنكون تلاميذك الأوفياء، الذين يحملون هذه الرسالة ويواصلون الطريق؟
لقد تذكرنا جميعا برحيله حقيقة كبيرة: “أن المحبة تحتم الاتباع”. فمحبة العلماء والصالحين ليست شجنا يرتجل، أو قصيدة تنشد، ثم تذوي. كلا. إنها وصية حية نحملها بعدهم.
- فمن كان يحب المقرمي لتدبره، فليتدبر القرآن كما كان يتدبر.
•ومن كان يحبه لوقاره وخشوعه، فليتخذ من أخلاقه نبعا لتزكية نفسه.
•ومن كان يحبه لجمعه القلوب على الخير، فليكن سببا في التأليف بين الناس، لا في التفرق.
إن أجل عزاء نقدمه لأنفسنا ولذويه، وأعظم إجلال لذكراه، ألا نكون حجرا في نهر دعوته يمر وينقضي، بل أن نكون جزءا من النهر نحمل رسالته ونمضي بها قدما.
رحمك الله يا شيخنا الحبيب رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعل حبنا له حباً عاطفياً فقط، بل اجعله حباً يورث الاتباع لا الإبتداع، وعملاً يرضيك، وسلوكاً يقربنا منك.
رحم الله الشيخ محمد المقرمي أبداً ما بقيت كلماته تنير الدرب، وأبداً ما بقي القرآن يتلى. وجزاه عنا خير ما جزى عالماً عن أمته.
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}





