- بقلم: محمد علي اللوزي
يتعامل الغرب مع اليمن ومع العالم الثالث عمومًا من منطلق الربح والخسارة، وكأن قانون الرسملة الغربية أصبح قدرًا مفروضًا على الشعوب الضعيفة بلا ضوابط ولا أخلاق. فالغرب لا يرى فينا سوى أسواق مفتوحة ومناطق نفوذ ومجالات اختبار لسياساته ومشاريعه. يتحدث إلينا من موقع السيد، ويعاملنا بمنطق التابع الذي لا يحق له أن يختار أو يعترض.
يحدثنا الغرب عن ثقب الأوزون، وعن ضرورة حماية البيئة، بينما نحن نعاني من ثقوب الحياة نفسها: من فقرٍ ينهش الجسد، ومن جهلٍ يقيد الفكر، ومن حربٍ تمزق الكيان. يتحدث عن أخطار الاحتباس الحراري، ولا يرى احتباس الإنسان العربي داخل جدران الخوف والخذلان. يحدثنا عن حرائق الغابات، ولا يلتفت إلى حرائقنا البشرية التي تشتعل كل يوم في اليمن وسوريا وغزة والسودان وغيرها من بقاع الألم العربي.
يقدم لنا الغرب نصائح في الديمقراطية، لكنه في الواقع هو الراعي الأكبر لكل دكتاتور يضمن له استمرار مصالحه. يبيعنا دروسًا في حقوق الإنسان، وهو أول من ينتهكها في سجون سرية ومعتقلات متنقلة. مشكلتنا مع الغرب أنه لا يتعامل معنا كأمم لها كرامة وحق في الحياة، بل كـ”حالات ترفيه فكري”، وموضوعات لنقاشات فلسفية في جامعاته ومراكزه البحثية.
ثقب الأوزون عنده أهم من ثقب الكرامة عندنا.
ومشكلتنا معه ليست فقط في سياساته، بل في منظومته الفكرية التي ترى فينا “آخرَ” أدنى، لا يحق له أن ينهض إلا بإذنه وتحت وصايته. الغرب لا يزال غربًا بالمعنى الجغرافي والنفسي والسياسي والاقتصادي؛ لم يقترب منا إلا بقدر ما تقتضيه مصالحه، ولم يسمح لنا بالاقتراب إلا بقدر ما يخدم استراتيجياته الطويلة الأمد.
وفي المقابل، لم يستطع الشرق أن يتعافى من أزماته الداخلية، ولا أن يتخلص من تبعيته التاريخية للغرب. فبقيت الحواجز قائمة: حواجز فينا ومعنا، بين من يملك القرار ومن لا يملك سوى الانتظار. الغرب يواسينا بالكلمات، لكنه يتناسى واجباته الأخلاقية والإنسانية، يتحدث عن المساعدات الإنسانية بينما يصنع السلاح الذي يقتلنا، ويعقد مؤتمرات السلام بينما يمول الحروب في الخفاء.
وفي اليمن، تتجلى الصورة بأوضح صورها. فالولايات المتحدة الأمريكية، التي تتزعم هذا الغرب، لم تبحث يومًا عن حل لمشكلة البطالة أو الفقر أو انهيار الدولة اليمنية، لكنها لا تتوقف عن البحث عن “العولقي” أو “الإرهاب” المزعوم.
اليمن بالنسبة لها ليست وطنًا يئن من الجوع والدمار، بل جغرافيا استراتيجية وممر بحري يربط الشرق بالغرب، وبوابة جنوبية تطل على أكبر مخزون من الثروات النفطية في العالم.
تريد أمريكا أن تبقى اليمن مفتوحة براً وبحراً وجواً، ساحة مراقبة ونفوذ ومختبرًا لتجريب أدواتها العسكرية والسياسية. تلاحق من تشاء وتغض الطرف عمّن تشاء، تتدخل حينًا بذريعة “مكافحة الإرهاب”، وتهدد حينًا آخر الأنظمة بالثورات أو الثورات بالأنظمة. وفي كل الحالات، لا يعنيها لا النظام ولا الثورة، بل يعنيها فقط ألا ينهض اليمني ولا يستقل بقراره.
الغرب لا يريد لنا أن نتحرر، لأنه يدرك أن الإنسان الحر لا يُستعبد، وأن الشعوب التي تعرف قيمتها لا يمكن أن تُشترى ولا تُخدع. لذلك يظل الغرب يطعمنا الشعارات، ويبيعنا الوهم باسم الحرية والحداثة، بينما يستنزف خيراتنا ويُبقي جراحنا مفتوحة.
وفي نهاية المطاف، ليست المشكلة في “الغرب” كموقع جغرافي، بل في الغرب كمفهوم وهيمنة وثقافة. الغرب الذي يتحدث عن القيم وينسى الإنسان، الذي يرفع راية الحقوق ويدوسها حين تمس مصالحه، الذي يصدّر لنا الموت بأسماء براقة كـ”التنمية” و”الديمقراطية” و”الإصلاح”.
ذلك الغرب لم يتغير، وإنما غيّر أدواته فقط، وبقي على حاله: أنانيًّا، استحواذيًّا، يهوى السيطرة كما يهوى الفنان لوحته، لا يشبع من النظر إلى معاناة الآخرين، ولا يتورع عن تحويلها إلى هواية سياسية دائمة.





