- كتب: د. قاسم المحبشي
البارحة عقدت وحدة الدراسات الثقافية في المعهد العالمي للتجديد العربي، حلقة نقاشية بعنوان (إشكالية الهوية بين الاختراق والممانعة الثقافية ) ادراتها الدكتورة سليمة مسعودي، أستاذة الأدب والنقد المعاصر في جامعة باتة الجزائرية وعضو المعهد العالمي للتجديد العربي وتحدثت فيها الدكتور محمد مرتاضي استاذ التواصل والاتصال في جامعة محمد الخامس بالمغرب وعضو المعهد العالمي للتجديد العربي وعقب عليه الدكتور محمد بن علي العوفي استاذ الموارد البشرية في جامعة سلطان قابوس. كانت ندوة مثيرة للنقاش والحوار الفعال.
حرصت على حضورها بحافز اهتمامي الدائم بموضوع الهوية العربية في زمن العولمة والتحول الرقمي. فكيف يمكن الحفاظ على الهوية العربية في عالم شديد التداخل والاندماج وفي ظل تعدد الحضارات والثقافات واللغات المتنافسة؟ وبحكم تخصصي بالفلسفة واعتقاد بأن سؤال الهوية وتحولاته المفهومية يقع على تخوم الفكر الفلسفي أكثر من أي تخصصات أكاديمية إنسانية أخرى.
في البد استهلّ مقالي بوجهة نظر فتحي المسكيني في الذات والهوية إذ كتب: “أن مبدأ الهويّة كان قد ترسّخ بشكل مبكّر في التّفكير اليوناني، باعتباره قانوناً للتّفكير. والمشكل أنّنا نربط بسهولة غير مبرّرة بين الهوية والسؤال ”من؟”، فعندما نقول لك: ”من أنت؟” يتبادر إلى ذهنك أنّك تُسأل عن هويتك، وهذا فخّ نحويّ أو بلاغيّ، والحال أن الهوية قد ترعرعت، باعتبارها مفهوماً فلسفيّاً في نطاق السؤال ”ما هو؟” وليس في نطاق ”السؤال من؟”، وعندما نقول: ”ما هو الكتاب؟” مثلاً، فنحن نزعم أننا نستطيع أن نجيب بقولنا: ”إنّه هو”؛ وذلك يعني أننّا ندرك الخصائص التي تجعل منه كتاباً وليس شيئا آخر. والذين يظنون أن الهويّة شيء ينبغي أن ندافع عنه هم مخطئون، فلا تحتاج أية هوية أن ندافع عنها، لأنّها ما به تكون ما أنت، فلا تستطيع أن تثبته، بينما تستطيع فقط أن تكونه، ولذلك فنحن عندما نريد أن نجيب عن سؤال ”من نحن؟”، فنقول مثلاً: ”نحن مسلمون” فهذا يعني أنّنا مسلمون فقط، ولا يعني شيئا آخر، وعندما نقول إنّنا أمازيغ أو عرب أو غير ذلك، فنحن ننسب أنفسنا إلى ماهية ما. ولو سمّينا ذلك ”هويّة” فنحن نخدع أنفسنا، فلا يمكن أن يكون السؤال ”من؟” سؤال الهوية. ههنا لعب نيتشه دوراً حاسماً، فهو الذي أخرجنا من سلطة السؤال ”ما هو؟” إلى قدرة ”السؤال من؟”، لأنّ ”السؤال من؟” يريد أن يقتدر؛ أي أن يستعمل كل إمكانية الحياة التي بحوزته”.
1- مفهوم الهوية:
الهوية مفهوم شديد التعقيد والتركيب، إذ ما زال مُحاطا بظلالٍ كثيفٍ وسوءِ فهمٍ شديد وذلك بسبب الطبيعة الشائكة للظاهرة التي يحاول وصفها، فضلا عن الخلط في الاستعمالات المختلفة للكلمة التي أخذ الناس يطلقونها على أشياء كثيرة بما تنطوي عليه من عناصر وأنساق وأبعاد متشابكة ومتعددة الصيغ والمستويات والدلالات. وقد عبر كثير من الدارسين عن ذلك بطرائق وصيغ عديدة، فهذا جان فرانسو بيار يرى في كتابه (أوهام الهوية) “أنه ليس هناك من دواعي قلق معاصر إلا وتثيره قضية أوهام الهوية” ويذهب أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة) إلى”أن التصدي لمفهوم الهوية يتطلب كفاءة عالية، وجسارة فائقة، وحذر شديد، لما ينطوي عليه من طبيعة زائفة وخادعة، إذ إنه يشبه الأصدقاء المزيفين الذين يبدون، في ظاهر الأمر، أكثر شفافية وبساطة، بينما هم في الواقع أكثر مكر وخيانة “. وهذا ما سماه الفرنسي كلود دوبار،”أزمة الهويات إذ بات مصطلح “هوية” نموذجا للكلمة المنحوتة التي يعكس عليها كل منا معتقداته ومزاجاته ومواقفه”. بينما يذهب دنيس كوش إلى القول: ” إذا كانت الهوية عسيرة على الوصف والتعريف فذلك بسبب خاصيتها الدينامية المتعددة الإبعاد ومرونتها المفرطة بما يجعلها قابلة للتبدل وإعادة الصياغة بل وللتلاعب”. وهذا ما حدي ببعض الكتاب إلى استعمال اصطلاح (استراتيجيات الهوية) بدلا من اصطلاح (الهوية ) بصيغتها المجردة. ولعل الإشكال الذي يتصل بمفهوم الهوية لا يكمن في الأسماء والمسميات والتعريفات والصفات ذاتها وبذاتها، بل فيما تعنيه للفاعلين الاجتماعيين في السياقات الاجتماعية والثقافية المشخصة (البسيطة والمركبة، الميكر والماكروسوسيولوجيا) وربما كان جون جوزيف يشير إلى هذا حينما كتب ” أن مصطلح الهوية لا يحظى أبدا بقبول عام في البحث الراهن … فهذه ايفاينتش 1998 تذهب إلى أنه على الرغم من أن الهوية هي ” الكلمة العادية التي ترمز إلى معنى ماهية الناس فإن مشكلتها أنها لا تحمل معها تضمينات بشكل أوتوماتيكي لبناء وتقييد اجتماعيين” ومن أجل مقاربة معاني الهوية وفهمها حاول بعض الفلاسفة التمييز بين الكائنات وتصنيفها في مبدئيين: مبدأ الهوية ومبدأ الوجود، فمن مبدأ الهوية نتعرف على ماهية الكائن وهويته الجوهرية (النوع والجنس والصفات) هذا معدن وذاك حجر هذا كلب وذاك جمل ..الخ ومن هنا يمكن تصنيف جميع الكائنات غير العاقلة بعدها كائنات ماهوية وجدت بماهية وهوية مكتملة قلما تتغير مع الزمن، في حين أن مبدأ الوجود يقتصر على وجود الكائن الإنساني، إذ إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ولد ناقصا، أي غير منجز الهوية، إذ إن وجوده يسبق ماهيته، فهو وجود لذاته ومن أجل ذاته وليس وجودا في ذاته وفي متناول اليد مثله مثل وجود الأشياء. وهذا هو مبعث حضور مشكلة الهوية الطاغي في عالم الإنسان، إذ توجد الحرية والعقل واللغة والحاجات والمصالح والرغبات والأحلام والأوهام والتنافس والصراع. إلخ. ويميز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بين معنيين للهوية:
ف”الهوية بمعنى الشيء عينه (idem) والهوية المطابقة (Sameness) بالإنجليزية بمعنى الهوية المتطابقة بإحكام، أو المتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق مع الذات في جميع الأزمنة وجميع الأحوال”. وربما كان الفيلسوف اليوناني بارمندس هو أول من وضع هذه الصيغة بعبارته الشهيرة (الوجود موجود والعدم غير موجود) ثم جاء أرسطو فصاغها منطقيا في قوانين الهوية الثلاثة. وهذا هو التصور الذي شاع في الفلسفة العربية الإسلامية المتأثرة بأرسطو. ويذهب الجرجاني في “التعريفات” إلى أن الهوية هي “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق” و(البذرة تحمل في جوفها شكل الشجرة وطعم الفاكهة) حسب هيجل. أما عالم الاجتماع البريطاني انتوني جدنز فيذهب إلى أن الهوية Identity هي “السمات المميزة لطابع الفرد أو الجماعة المتصلة بماهيتهم وبالمعاني ذات الدلالة العميقة لوجودهم”. ويذهب مايك كرانج إلى القول: إنه “يمكن تحديد الهوية من نقيض ما نحن عليه بقدر ما يمكننا تحديدها من طريق من نحن … وكثيرا ما تتدخل الجغرافيا هنا لأن الجماعات في صيغة (نحن _ هم) هي في أحوال كثيرة محددة إقليميا” ولعل هذا التعريف يستند إلى الفكرة الفلسفية التي مفادها (أن كل تعريف تحديد وكل تحديد سلب) ويرى روجيس دوبرية أن “هوية الجماعة هي إيديولوجيتها ” وحيثما تختلج (نحن ) فستكون (إيديولوجيا ) وحينما يتعذر قول (نحن) لا تكون (إيديولوجية)… لأن ولادة إيديولوجية معناه ولادة جماعة ” وتلك الصيغة هي التي وجدت رواجها في فكر ما بعد الحداثة الذي ينفي وجود هوية ذات مستقلة قبل وجود محمولها، فلا تتأسس هوية الذات إلا في علاقتها بالآخر وهكذا تتحدد المفاهيم بوساطة ما لا تكونه، بل إن الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي وصفها ب “النقلة الحاسمة في إعادة تفسير العلاقة بين الذات والموضوع … لا يوجد أساس أو جوهر أو محل وراء الصفات أو المحمولات .. بل توجد (الهويات) فقط كما يجري تمثيلها في شكل مادي ملموس”.
نخلص مما تقدم إلى أن الهوية الجمعية هي بنية ثقافية تاريخية تمنح المنتميين إليها إحساسا بالتماهي مع ذاتهم الجمعية (نحن) التي تميزهم عن الجماعات الأخرى، فضلا عن كونها إيديولوجيا كلية تحدد نظرتهم إلى ذاتهم وإلى الآخرين وإلى التاريخ والحياة والعالم.
2- مفهوم الأقليات:
اصطلاح (الأقلية) لا يعني كما هو شائع الأقلية العددية من السكان حسب، بل يعني كذلك الجماعة المضطهدة، أو المهمشة أو المستبعدة، بصرف النظر عن نسبتها العددية، إذ إن المصطلح يصف علاقات الهيمنة والتبعية والخضوع أكثر من كونه وصفا كميا وعدديا. وهذا التعريف هو الأكثر قبولا في الدراسات المعاصرة، لاسيما أن ثمة شواهد تؤكد هيمنة الأقلية السكانية على الأغلبية المستبعدة والمضطهدة كما كان نظام الأبارتيد (العزل العنصري) في جنوب إفريقيا، حيث كان السود أكثرية عددية مستبعدة. والبيض أقلية مهيمنة. وهذا هو حال الشعب العربي الفلسطيني اليوم مع الأقلية الصهيونية المغتصبة. فاصطلاح الأقلية يشير إلى انقسام المجتمع إلى مجموعتين أو أكثر, إحداهما اكبر أو أقوى من المجموعات الأخرى. ويتصل اصطلاح الأقليات بسلسلة من الاصطلاحات الأخرى (العنصر، العرق، الجماعة الإثنية، الطائفة، وغير ذلك من الهوايات المتعددة ثقافيا). وهذا ماحدي بالباحث ويل كيمليكا في كتابه (أوديسا التعددية الثقافية) إلى التساؤل بشأن المعنى المقصود بالكلمة.. من هي الأقلية ؟ هل أقلية سكانية أم طائفة دينية، أم المهاجرون، أم جماعة سياسية، أم أصحاب الأرض الأصليين، أم جماعة لغوية، أم قومية أم قبلية أم لاجئين ؟) وفي الموسوعة البريطانية الجديدة “الأقلية هي مجموعة متميزة ثقافياً أو دينيا أو عرقياً تعيش ضمن مجتمع اكبر”ويذهب كلين لوش إلى إن الأقلية هي “الجماعة التي تعرف على إنها مختلفة عن الأغلبية، حسب افتراضات مرتبطة بمعايير جسمانية أو ثقافية أو اقتصادية أو سلوكية، ونتيجة لذلك تعامل وتضبط بصورة سلبية ” وهذا هو ما قصدته إيريكا آيرين دايس في تعريف الأقلية بأنها “جماعة مرت بتجربة الاستبعاد أو التمييز بوساطة الدولة أو مواطنيها بسبب السمات العرقية أو القومية أو الدينية أو اللغوية لأجدادها”.
مما تقدم نخلص إلى أن الأقلية هي كل جماعة ذات هوية متميزة تعيش في مجتمع ما وتعي ذاتها بوصفها مضطهدة أو مستبعدة ومحرومة من الوصول إلى فرص الحياة والعيش المتاحة للجماعات الأخرى لأي سبب من الأسباب التاريخية والثقافية المادية والرمزية المتصلة بعلاقات الهيمنة.
3- الطائفة والطائفية:
تثير كلمة طائفية الكثير من سوء الفهم والتفاهم بين الناس, إذ قلما نجد كلمة أخرى غيرها في أيامنا أثارت تلك الأمواج العاتية من الانفعالات والتفاعلات المشحونة بالتوتر والاضطراب، بسبب الخلط بين كلمتي طائفة وطائفية، فضلا عن الخلط بين الدين والسياسة، مما يدعونا إلى التمييز بينهما. إذ إن طائفة من (طاف، يطوف، طواف، فهو طائف) تعني جماعة أو زمرة أو جزء، فالبناء اللفظي يحمل معنى حركة الجزء في الكل من دون أن ينفصل عنه, فمن الممكن أن يجتمع عدد من أفراد قوميات متعددة في طائفة واحدة بخلاف أوطانهم أو لغاتهم، مثل الطائفة الإسماعيلية في الهند واليمن والعراق وأوروبا وغيرها. وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم ”وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا” (الحجرات آية9) وهذا هو معناها في المعاجم والقواميس العربية، وهي ترمز إلى حالة التعدد والتنوع الاجتماعي الثقافي للناس في منظومة الوحدة الإنسانية، وبهذا المعنى تختلف الطائفة عن الطائفية بما تحمله (الطائفية) من شحنة إيديولوجية عالية التوتر وشديدة الانفجار، ومن ثم فإن علينا الاحتراز والحذر من تعريفاتها الآتية من السياقات المغايرة، لاسيما الغربية المعلمنة تحديدا، إذ إنهم لا يميزون بين طائفة وطائفية, فهذا عالم الاجتماع الانجليزي انتوني جندز يعرف الطائفة بأنها “الجماعة الدينية التي فقدت حيويتها وقدرتها على التجدد وأصبحت هيئة ممأسسة ينصاع لسلطتها أعداد مهمة من الناس” وهذا ما دفع بعض الباحثين العرب إلى التشديد على التمييز بين مفهومي الطائفية والطائفة كما فعل عبد الحسين شعبان في مقالة (الطائفة والطائفية ..المواطنة والهوية!) إذ أكد “أن الطائفية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطائفة، ذلك أن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، في حين أن الطائفية، هي توجّه سياسي يسعى إلى الحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى، حتى إن كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً وأغراضياً بهدف الحصول على المكاسب “ومن هنا تبرز أهمية المنظور النقدي للمسألة الطائفية، بدلا من الاكتفاء بإدانتها مع ضرورة التمييز بين التعصب والانتماء، وهذا ما أوضحه عزمي بشارة، مشددا على التمييز بين الطائفة الاجتماعية والطائفية السياسية، إذ أكد أن الطائفية الاجتماعية حالة تاريخية ثقافية في كل المجتمعات الإنسانية، بيد أن المشكلة تنجم في تسييسها فالطائفية نظام سياسي اجتماعي وليس دينا أو تديّنا بالضرورة فكثير من الطائفيين غير متديّنين في حين ذهب برهان غليون إلى أن الطائفية هي “مجموع الظواهر التي تعتمدها الجماعة من أساليب ما قبل سياسية في سبيل تحقيق مكاسب إيديولوجية” فالدين ليس نهج اعتقادات فحسب بل هو كذلك نهج قوى اجتماعية وسياسية متصارعة. وتكمن ميزة الدين في قوة تأثيره السحرية في ضمائر وعقول المؤمنين به ودفعهم للقيام بما يطلب منهم في أي وقت من الأوقات, والصراع ينبه إجراءات تحقيق الذات للـ”نحن الطائفية” وهذا ما أوضحه الأمريكي سكوت هيبارد في كتابه (السياسة والدين والدولة العلمانية)، إذ أكد “أن سياسة مبارك في مصر كنت تستخدم الدين والقومية مضفية صبغة طائفية إسلامية على المجال العام مما خلق بيئة سياسية اضطهد فيها المسيحيون الأقباط والمفكرون العلمانيون وغيرهم ممن كانت لهم آراء دينية معارضة… وهذا ما جعل الطوائف المضطهدة في مصر تتخذ وضعية المواجهة” والاضطهاد والإقصاء يعمق شعور المضطهدين بهويتهم، كما يفعل (الطرق على المسمار في الخشب) و”يستجيب تبلور الطوائف الفائرة لطلب الترحم بالانتقال إلى بنية نفسية للحرب تكون بمثابة جواب تكيفي على التهديد الخارجي. ويدفع تجدد التوتر (نحن _ هم) بالجماعة المنخرطة نحو فضاء ذهني انكفائي بشكل مضاعف، يتميز بالمقابلة بين (جيد _ رديء ، نظيف _ وسخ) ، التي تختص بها الانفعالية الطفولية ، وبالمقابلة ( مقدس _ مدنس، داخل _خارج ) التي يختص بها رد الفعل الديني على التهديد.
ويضاف مجددا البعد الجدالي لانفعالية الزمرة إلى البعد الانفعالي للمناظرة … “فليس (هناك ) أفضل من مؤمن لتعذيب مؤمن أخر شرط أن يكون من الطائفة نفسها. فإتباع المسيح المخلص قد اغتالوا بلا ريب، في زمانهم من المسيحيين أكثر مما اغتال أتباع (الهلال ) الخصيب” وهكذا تتجلى الطائفية بوصفها خطابا إيديولوجيا يهدف إلى تفعيل الطائفة وتشغيلها بوصفها رأس مال اجتماعي ثقافي مادي ورمزي لتحقيق مكاسب استراتيجية متنوعة بالمعنى الواسع للكلمة , والطائفية تخفي الطائفة، كما تخفي السياسة السياسي. ويصعب فهم الهويات الجماعاتية بمختلف صيغها الذاتوية وتفسير نشوئها وتبلورها (أقليات طوائف مذاهب ملل نحل) بمعزل عن شبكة علاقات الهيمنة بين الـ(أنا) والـ(أخر) الـ(نحن) والـ(هم) إذ إن كل شي هنا مرهون بالكيفية التي نتمثل فيها صورة الآخر, إذ “يرتبط سؤال الآخر ارتباطا تكامليا بسؤال الهوية. فالهويات تتكون نتيجة لعبة الاختلاف… فالآخر هو ما يروق من شعورنا وتعرفنا، وهو ما يكون خارج (ثقافتنا) وجماعتنا. فهو ألا ذات وألا نحن، إذ كيف نتوافق مع واقعية آخر الآخرية مع الغيرية والغريب والمجهول؟ كيف نهتم بالتعرف المزعج فعلا على أهمية الآخر لـ”نحن”. فالاختلاف والغيرية هو أصل وأساس الهوية. ويذهب الفيلسوف جيل دولوز إلى أن “كل الهويات ليست بأكثر من إختلاقات مصطنعة بوصفها “أثرا” بصريا عن لعبة أعمق هي لعبة الاختلاف”.
4- مفهوم الآخر Other:
هو مصطلح يدل على ما يفيد الفقدان أو الفجوة أو النقص في عمليات الذات، يجعل الذات عاجزة عن تحقيق ذاتها بالاتجاه نحو داخليتها، وهذا ما ألمح إليه علي سعد الدين وطفه بقوله: “إن الآخر في أكثر التجليات النفسية حضوراً يأخذ صورة كينونة إنسانية جامعة لمعاني التحدي والخوف والخطر … لأنه يناهض رغبات الأنا وإرادتها وحرياتها في الإشباع ، وهذا التصور السلبي للآخر يضفي على العلاقة التفاعلية بين الذوات الاجتماعية الفاعلة صبغة صراعية دائمة” وهذا هو فحوى صرخة سارتر ( الجحيم هو الآخرون).
5- مفهوم الاعتراف:
نقصد بالاعتراف، التقبل، والموافقة، والتقدير، والاحترام والإحساس بالآخر بوصفه كائناً إنسانياً جديراً بالتقدير والقيمة والأهلية والكرامة والحرية، على عكس الاستبعاد والتهميش والازدراء والاستكبار والاستبعاد والإقصاء والقمع والاحتقار. والاعتراف يرتبط بقيمة التسامح الذي يعني احترام وقبول وتقدير التنوع والاختلاف والانفتاح تجاه الآخرين المختلفين، بعكس اللاتسامح، الذي هو الجهل والتعصب والانغلاق والاستعلاء والتكبر والتطرف والعنف والإكراه “فالتسامح لا يعني بالضرورة أن نحب جارنا بقدر ما يتوجب علينا أن نجتهد لاحترامه حتى بقدر ضئيل”والتسامح يعتمد على أساس رسوخ الفكرة الثورية لكرامة كل بني الإنسان حتى أقلهم موهبة وشاناً، وحق كل منا في أن تكون له أفكاره الخاصة حتى وإن كانت أفكارا منافية للعقل، ومخالفة للرأي العام وبهذا المعنى نفهم ابن رشد في قوله: “من العدل أن تأتي كل ثقافة من الحجج لخصومها بمثل ما تأتي لنفسها، أي أن تجتهد كل ثقافة في طلب الحجج لخصومها بقدر ما تجتهد في طلب الحجج لنفسها وأن تقبل من خصومها النوع نفسه من الحجج التي تقبلها لنفسها”، والحاجة إلى الاعتراف هي “الرغبة الأكثر التهابا للطبيعة الإنسانية، إذ لا يوجد شخص يستطيع أن يبقى غير مبال باعتراف الآخرين. ولا يوجد ثمن نحن مستعدون لدفعه لكي نحظى بهذا الاعتراف. وقد تخلى البشر بإرداتهم غالباً عن الحياة، لكي يحظوا بعد موتهم بسمعة لم يستطيعوا التمتع بها”، وفي هذا السياق جاء تأكيد الألماني اكسل هونيت بـ” أن الكثير من النزاعات الاجتماعية والسياسية التي وجدت في الماضي أو الموجودة اليوم ربما تجد أسبابها في مسألة الاعتراف، التي من دونها يستحيل فهم الدوافع العميقة لمساعي الناس وغاياتهم ونزعاتهم “ويضع عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلوم، الحاجة إلى الاعتراف في قمة هرمه الشهير بعد الحاجة الفسيولوجية وحاجات السلامة والأمان ورغم ذلك فلابد من الحذر,كما نبه عزمي بشارة في مقاله النقدي (مزالق إثارة الإعجاب وطلب الاعتراف) من مخاطر” الخلط بين مطلب الاعتراف بالحقوق وطلب الاعتراف بالهوية، وبين مطلب العدالة وطلب الاعتراف( 37).
6- مفهوم الإنصاف:
يرتبط مفهوم الإنصاف، بمفاهيم العدل والحق ورد المظالم، وقد شاع في الفلسفة السياسية المعاصرة مع جون رولز، وكتابه، العدالة العدالة كإنصاف، الذي انتقد فيه المبادئ الصورية للعدالة الليبرالية كمبدأ المساواة القانونية ومبدأ الحرية الليبرالية، محاولا صياغة مبدأ أخر للعدالة اسماه الإنصاف الذي يعني أن “لكل فرد في المجتمع أن يحصل على حق متساو في أكثر إشكال الحرية والعدالة شمولاً وأوسعها مدى تتلام مع حرية الآخرين… بحيث يكون الجميع حاصلين على فرص وقدرات متساوية تمكنهم من المنافسة على جميع الخيرات والمراكز والمناصب بما في ذلك الأعضاء الأقل حظا وموهبة”.
7- مفهوم علاقات الهيمنة Hegemony:
هَيمَنة: (اسم) مصدر هَيْمَنَ، احْكَمَ هَيْمَنَتَهُ: سَيْطَرَتَهُ، سَطْوَتَهُ، وفي الإنجليزية أو لفظ hegemony أوhgmonie مشتق من اللفظ اليوناني hegemon ويعني “الرئيس” أو “القائد” أو “الحاكم”. وفي الدراسات الاجتماعية والإنسانية تطلق كلمة الهيمنة وصفا للسياسات التسلطية التي تستند إلى حق القوة وليس قوة الحق في تدبير أمر الشأن العام، وقد اكتسب مصطلح الهيمنة أهمية متزايدة منذ أن أطلقه جرامشي في منتصف القرن الماضي ، بدلالة حصرية، لكنه اليوم غدا من الكلمات المفتاحية في الدراسات الاجتماعية والنقدية الثقافية. وقد ارتأينا استعماله هنا كأداة منهجية نقدية في مقاربة مشكلة سياسات الهوية ومشكلة الطائفية في المجتمعات العربية، بما يوفره من فتح أفاق محتملة للرؤية والفهم. فإذا ما انطلقنا من منظور العلاقات الاجتماعية ورهانات الفاعلين الاجتماعيين في تفصيلاتهم للأسماء والصفات والتعريفات التي يعرفون بها أنفسهم وتلك التي يطلقونها على غيرهم ربما استطعنا النفاذ إلى جوهر المشكلة، إذ إن أفكار الناس عن أنفسهم وعن غيرهم وعن الحياة والتاريخ والكون إنما هي نابعة من علاقاتهم الاجتماعية، حسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي أكد “أن الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني الذي نسجها بنفسه”، والهيمنة من هذا المنظور لا تنحصر في أمور التحكم السياسي المباشر بل تصف علاقات أكثر عمومية تشتمل كأحد معالمها الرئيسة، طريقة معينة للنظر إلى العالم والطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية.
ونقصد بعلاقات الهيمنة مجمل منظومة العلاقات التفاعلية بين الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين أفرادا وجماعات شعوبا ودول وحضارات في مختلف مجالات الحياة الواقعية والرمزية بوصفها علاقات قوة وسلطة ونفوذ، تستمد شرعيتها من فرض كونها أمرا واقعا ومسلمة بديهية لا تقبل التساؤل والتشكيك.
إذا ما حاولنا النظر في المسألة الطائفية العربية في سياقها التاريخي الثقافي الراهن من منظور علاقات الهيمنة ورهانات الهوية فربما نقترب من جوهر المعضلة، إذ إن دعاوى القول بان الطائفية هي سمة لازبة ومتأصلة في المعتقد الديني من حيث هو كذلك أو جوهر ثابت في الإسلام يمكن دحضها بالوقائع التجريبية المقارنة مع المجتمعات المعاصرة التي تحيط بنا مثل الهند وروسيا والصين وتركيا وباكستان بل وأكبر دولة إسلامية أندونيسيا وماليزيا وغير ذلك من المجتمعات التي تزخر بتعدد الأديان والطوائف والأقليات الأثنية واللغوية، ففي الهند وحدها أكثر من 600 ديانة ومعتقد، ورغم ذلك لا تعاني من وجود مشاكل طائفية كما هو حال شعوب المنطقة العربية التي هي “موحدة لا بسبب حلولها المشتركة ولكن بسبب مشاكلها المشتركة ” ويذهب برنارد لويس إلى إن “شعور المسلمين بهويتهم الإسلامية المشتركة_ هذا الشعور الذي عجز عن حفظ الوحدة السياسية للعلم الإسلامي كان يكبح نمو الدول والأمم داخل الإسلام “وبصرف النظر عن هذا الرأي المنطلق من المركزية الأوروبية، فمن المؤكد أن مشكلة الهويات الطائفية وحروبها المشتعلة اليوم هي أعقد مما يمكننا تصوره، وليس بمقدورنا فهمها أو تفسيرها بسبب واحد أو بعدة أسباب وعوامل ومتغيرات بسيطة، إذ هي حصيلة شبكة هائلة من الشروط والعوامل والأسباب التي تشكل لحمة التاريخ وقواه (الثقافة.. علماً وأدباً وفناً، وهي قوة التاريخ الإبداعية والحضارة.. سياسة وأخلاقاً وتشريعاً، وهي قوة التاريخ التنظيمية. والمدنية.. زراعة وصناعة وعمارة وهي قوة التاريخ المادية السلعية) وهذا يدفعنا إلى إعادة النظر في أدواتنا المعرفية ونقدها باستمرار في ضوء المعطيات الجديدة للعلوم الاجتماعية والإنسانية. ولما كانت المشكلة التي تؤرقنا هنا هي مشكلة العيش المشترك للناس في مجتمع مندمج ومستقر وقادر على النماء والتطور والازدهار، فمن المهم أن نتوفر على الفهم اللازم عما يجعل الحياة المشتركة في مجتمعاتنا العربية ممكنة كما هو حال المجتمعات التي نتقاسم معها الحياة في عالمنا الراهن.
ومن الأخطاء الشائعة في تاريخ العلوم الاجتماعية فكرة الطبيعة المدنية والسياسية للكائن البشري، التي نسبت إلى أرسطو بصيغة (الإنسان كائن مدني بالفطرة ) وأعادها ابن خلدون بصياغة أخرى، وهي الفكرة التي دحضتها الانثربولوجيا التجريبية، وفي هذا السياق يمكن النظر إلى عمل الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه, الحياة المشتركة: بحث أنثروبولوجي 1995، والذي توصل فيه إلى دحض فكرة الطبيعية الاجتماعية للإنسان. إذ كتب أن بحثه ” ليس معالجة الإنسان في المجتمع كما جرت العادة بل على العكس معالجة مكانة المجتمع في الإنسان. فماذا يعني بالضبط هذا القول المقبول عموما: إن الإنسان كائن اجتماعي ؟” وفي سياق بحثه عن الإجابة الممكنة للسؤال توصل تودوروف إلى إن الإنسان كائن أناني ونفعي محض يهيمن عليه حب الذات والتفرد والاستحواذ، وان اجتماعيته ليست طبيعة فطرية بل هي ثقافية مكتسبة بفعل الضرورة القاهرة التي جعلته بحاجة إلى وجود الآخرين” وتلك هي الفكرة الفلسفية التي أسست لمشروع الحداثة الغربية وحضارتها العلمانية المنتصرة اليوم، فكرة الفصل بين مجال الرغبات والشهوات الأنانية الفطرية المتأصلة في الطبيعة البشرية، ( الـ(هو) المحكومة بمبدأ الليبدو، اللذة، حسب فرويد، ومجال العقل (أعدل الأشياء قسمة بين الناس) حسب ديكارت الأنا الواعية ألـ(هي) المحكومة بمبدأ الواقع، واقع العيش المشترك في المجال الاجتماعي العمومي المحكوم بالعقد الاجتماعي المدني العلماني.
في ضوء ذلك يمكننا النظر في الهويات بوصفها رهانات صراع واستراتيجيات قوى بين الفاعلين الاجتماعيين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبينهم والمجتمعات الحديثة، ولا وجود لهويات ثابتة ومكتملة وجاهزة في الظاهرة الاجتماعية، كما أنه من غير الممكن التعرف على الأفراد والجماعات مما يقولونه أو يعتقدونه عن أنفسهم، فكذلك يصعب فهمهم من هوياتهم الثقافية، بل لا بد من فهم (روح المعاشرة الاجتماعية) فيما بينهم، المعاشرة بوصفها علاقة تفاعلية تبادلية يومية بين الناس في عالمهم المعيش، عالم الممارسة الواقعية الحية ” الممارسة التي تعبر بوضوح عن معناها حسب بول فيين، “إذ هي ليست مثالا غامضا أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركا خفيا, بل ما يفعله الناس” في حاضرهم المباشر, حيث يكدون ويكدحون ويتدافعون ويتسابقون ويتنافسون ويتصارعون في سبيل الحصول على مقدرات وعناصر العيش المادية والمعنوية، حيث تكتسب الخطابات والرموز والتصورات والأسماء والمسميات والتعريفات والصفات والهويات الفردية والجمعية أهميتها وقيمتها وفاعليتها ودلالتها،وقوتها وسلطتها، إذ إن سلطة الكلمات والرموز لا توجد في ذاتها وبذاتها، بل تستمدها من خارجها، من سلطة الذين يستخدمونها في الواقع المتعين. وفي علاقة السلطة بالمعرفة، لا شيء خلف الستار حسب ميشيل فوكو، فالسلطة بوصفها علاقات قوى هي التي تقول دون أن تتكلم! والقوة دائما هي التي تشكل المجتمع وتمنحه المعنى، وهذا هو معنى القول المأثور (الناس على دين ملوكهم) ولا يوجد أي مجتمع تحترم فيه القواعد تلقائيا، ووظيفة السلطة هي الدفاع عن المجتمع من نقائصه الخاصة، ومن التهديدات الآتية من خارجه. فكيف هو حال السلطة والسلطان في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الآن؟ ولطالما استشهدنا بحديث الخليفة الراشدي عثمان بن عفان: (أن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) والعدل أساس الملك، ولا تدوم الدول إلا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح، حسب الماوردي.