- كتب: عبدالرقيب الوصابي
يحرص الشاعر عبدالمجيد التركي في تجربته الشعرية “كبرت كثيراً يا أبي”، على ألا يدخل عالم قصيدة النثر مثقلاً بمعايير وضوابط مسبقة عنها، بل نجده أشد تحرراً من الأدبيات التي تشكلت عنها جراء تنظير جيل الرواد المؤسسين من شعراء قصيدة النثر وجيل متراكم من نقادها منذ البواكير الأولى، إلا أنه رغم حرصه الواعي بضرورة الابتعاد عن قوالب الآراء والأحكام النقدية الموازية لها نجده لا يغفل في الآن ذاته الأبعاد المعرفية والقضايا الفلسفية لقصيدة النثر، أي أن شاعرنا يبتعد عما يثقل القصيدة ويقترب مما يكسبها شرعية واعترافاً في نفس اللحظة، مع وعي مسبق ينمو وقناعات تتعزز بضرورة التجديد والتجريب في تشييد عوالم وفضاءاتٍ شعرية لا نهائية قد لا توافق رؤى ورغبات الجيل المؤسس.. ففي مجموعته الشعرية “كبرت كثيراً يا أبي” نجد أنه قد سعى بوعي إلى تقديم تجربة شعرية متكاملة عبر قصيدة نثر واحدة تتمدد وتتسع على امتداد قرابة 162 صفحة من القطع المتوسط، على هيئات متعددة تتكئ في مجملها على مبدأي التجريب والتجريد، أي أننا سنكون وجهاً لوجه مع أطول قصيدة نثرية حتى لحظة كتابة هذه المقاربة النقدية، الأمر الذي يؤكد مضي الشاعر بقصيدة النثر في اتجاهات غير معهودة ولا متوافقة مع أبرز ما تواضع عليه النقاد في مراحل متقدمة من سنوات التأصيل والتنظير والتأسيس. فمن البديهي لدينا أن القارئ قد لا يقتنع بقراءة قصيدة نثر طويلة، وإذا أُكره على قراءتها فقد لا يحافظ على حماسته وشغفه بها حتى ينتهي من قراءتها، إذ سرعان ما ينكفئ على نفسه مللاً ويتمطط تعبيراً عن تأفف وضجر قد يدفعانه إلى التخلي عن إكمال القراءة وسبر أغوارها، ولعل هذا وغيره كان سبباً جوهرياً في تأكيد النقاد على اشتراطات بعينها لكتابة قصيدة النثر من أهمها:
“الاقتصاد اللغوي – المجانية – الانقطاع … إلخ”.
لكن ما فعله الشاعر عبدالمجيد التركي في مجموعته ” كبرت كثيرا يا أبي ” فيؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه يمضي بقصيدة النثر بعيدا عن رؤى المتقدمين و معاييرهم النقدية ، وهو ما تحاول سطور هذه المقاربة تسليط الضوء عليه .
الشعر ليس سوى وجه من وجوه التعبير عن تصارع الإنسان بما يحيط به، وبما يُفرض عليه من مؤثرات في سعيه لتحقيق ذاته ودأبه وراء السعادة، كما يبدو أن الشاعر عبدالمجيد التركي يدرك ذلك الإدراك الواعي الذي يدفع به إلى تسريب سيرته الذاتية، ولا سيما الجزء الكبير المتعلق بذكريات الطفولة، إذ يطلُّ الشاعر علينا في “كبرت كثيراً يا أبي” عالقاً بين برزخين في لحظة مسروقة من الزمن، يحاول الإفلات من كارثية “اللحظة الراهنة” ليجد نفسه عالقاً بين برزخ استرجاع الطفولة أو الاستغراق تفكيراً بمستقبل لا تبعث حصيلة الإشارات الراهنة على التفاؤل والأمل.. ومن هنا يخطط الشاعر طلباً للنجاة بروحه في زمن الاحتراب المحاط بأرواح الضحايا ضرورة القفز على معطيات اللحظة الراهنة والسفر باتجاه عوالم الطفولة الممتد تحت عين أبيه ورعايته، تمهيداً للتفكير بالمستقبل الذي ينتظره أطفالنا، أي أن تجربة الشاعر تتوزع باتجاه ثلاثة أزمنة:
“استرجاع الماضي – اللحظة الراهنة – استباق المستقبل”.
ويوازي حضور هذه الأزمنة، حضور ثلاثة أجيال:
“جيل الآباء – جيل الأبناء – وجيل الأحفاد”.
يبدأ الشاعر قصيدته من اللحظة الراهنة، موظفاً مفردة “النظارة الطبية ” توظيفًاً سِيميائيًاً بعناية، إذ يفتتح القصيدة بقوله:
“غداً سأرتدي نظارة طبية،
سأرى الأشياء بوضوح رجل ثمانيني
وسأبدو أكثر نضوجاً وحكمة”. صـ 5.
وما إن نقطع شوطاً في قراءة “كبرت كثيراً يا أبي” حتى نكتشف أننا أمام ثلاث نظارات طبية، تتجلى في الحضور على النحو الآتي:
1- نظارة والد الشاعر:
ونجد أن الشاعر يستدعي هذه النظارة استدعاء سيميائياً يوازي تذكر واسترجاع طفولته تحت كنف أبيه يقول:
“تذكرت نظارة أبي…
كنت أرتديها لأرى نفسي كبيراً،
وأرى مسامات يدي مثل مقبرة بعيدة،
وهو يحذرني أنها ستسحب نظري” …صـ 7.
2- نظارة الشاعر:
توظيفها في سياقات القصيدة تنفتح باتجاهات وأزمنة متعددة لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، يقول الشاعر:
توظيفها في سياقات القصيدة تنفتح باتجاهات وأزمنة متعددة لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل، يقول الشاعر:
“قال لي الطبيب: ماذا ترى؟
أرى أرواح الضحايا
وأرى بياض الفحم
والدعوات المستجابة”. صـ 5.
أي أن مجال رؤيته توزع على ثلاثة مستويات:
– أرى أرواح الضحايا….. “اللحظة الراهنة”.
– وأرى بياض الفحم….. “المستقبل الغائم”.
– الدعوات المستجابة…. “طفولة الشاعر في كنف أبيه”.
3- نظارة الحفيد “ابن الشاعر”:
ويتم استدعاؤها وظيفياً وسيميائياً للدلالة على المستقبل، وبصياغة تنم عن مخاوف الشاعر تجاه ولده، يقول الشاعر:
“تذكرت نظارة ابني الصغير…
حين ينام..
أرتديها لتسحب نظري وأكون مثله،
تمنيت لو قايضته بعيوني ويعطيني نظارته”. صـ 7.
ومن خلال سبر أغوار “كبرت كثيراً يا أبي” للشاعر عبدالمجيد التركي، يتضح لنا أن الشاعر قد بنى عمله حول سؤال جوهري وهو سؤال الطبيب: ماذا ترى؟ ومن ثم محاولة الإجابة عن هذا السؤال الجوهري بالشعر ومن خلال الشعر ومن أجل الشعر.
ينسحب حضور ولد الشاعر ونظارته الطبية التي أشرنا أنها تتراسل دلالياً مع “المستقبل الغائم” لصالح طغيان حضور الشاعر وحميمية حضور والده عن طريق تودد الشاعر لأبيه والإكثار من النداء عليه، وهنا تحضرني مقولة صوفية كبرى تقول: “من عرف بر أبيه، فقد عرف ربه”، وفي تعلق الشاعر الشديد بأبيه ما يعكس أصالة هذا الود وتمام معنى البر، إلى الحد الذي لا ينادي فيه الشاعر على أبيه إلا باستخدام حرف النداء “يا”، وهو حرف النداء المخصص لنداء “الله”، وقد يدلل هذا على تسرب بعض الاستخدامات المسيحية أو التمثل للمقولة الصوفية السابقة، وبدوري أرجح الاحتمال الثاني، ومرد ذلك أن الشاعر بعد توجيه مجموعة من النداءات على أبيه، يلتفت في بنية الدعاء مخاطباً ربه بطريقة شفافة توحي عن طبيعة العلاقة بين الشاعر وربه، إذ يقول:
“نحن هنا يا الله،
تتحنَّى الأمهات بدماء أبنائهن
ويلوِّحن بأيديهن المفجوعة”، صـ 93.
أو كقوله:
“أحتاج أن أسمع صوتك يا الله،
فقد حجبتنا عنك العمائم واللحى..
أحتاج أن أضحك..
علمونا
أن الضحك يميت القلب”. صـ 94.
ويقترب من ذلك عند قوله في موضع ثالث:
“نحن هنا يا الله..
نحتاج إلى صراطك
كي لا يسقط ما تبقى منا،
نحتاج إلى حبلك
بعد أن التفت كل الحبال
على أعناقنا”. صـ 95.
ويبقى أن تكشف الحلقة الثانية من هذه المقاربة ماذا قال الشاعر في مجموعته الشعرية ؟ و كيف تسنى له قوله ؟ فلا تذهبوا بعيدا.





