- كتب: د. عبدالعزيز علوان
الاهداء : إلى مهندس هذه القراءات المهندس عدنان شمسان العريقي
الشكوى ، للأم ، تكاد تكون ملازمة للأغنية الريفية، وبالذات تلك الأغنية ، التي تؤديها المرأة ، لأن الأم هي الأقرب للفتاة ، يوحدهما الشعور ذاته ، فلهيب القلب جوى وصبابة ، لا يمكن أن تبوح به الفتاة ، لأحد ، غير أمها ، وقد يكون بوحا ، غنائيا أو غيره ؛ مبينة سبب لهيب القلب ، لذكرى الحبيب:
قلبي لهب يامه ومو لهيبه
قلبي لهب يامه ذكر حبيبه
تُشَبه الأغاني الشعبية المرأة الحسناء ممتلئة الجمال والارتواء، باللون( الأخضر و الاخضري ) ، ويقل وجود اللون الأسمر في الأغاني الشعبية اليمنية ، مقارنة بكثرة إستعمال هذا اللون ، في الأغاني الشامية والمصرية ، والفرق بينهما أن الأسمر يبدو خاليا من الارتواء ،( جافا ) .
تصف الأغنية المرأة الجميلة بأن خضرتها هبة من الباري ، وزادت على هذه الخضرة أن تصبغ وجها بالنيل ( حسب البردوني ) ، وبهذا اللون بدت المرأة ممتلئة ريا وجمالا :
أخضر من الباري وزاد تنيل
وانه شبيه المشقر المغيل
(التغزل بالحبيبة ..ِ يأتي بصيغة المذكر، ولم يتحرر الشعراء منه إلا أخيراً، ومع ذلك ما زال بعضهم يخاطب الحبيبة ، بصفة الغائب المذكر )، متبعا ، عادات الريف التي تُذَكر المرأة أثناء مناداتها ، وأغلب الاسماء التي تطلق عليها اسم أكبر أولادها ، وقد بدأت هذ العادة في الاضمحلال ، وفي هذا السياق وصف الفضول المرأة المبكرة الى عملها ( بصيغة الغائب ، الحبيب)
بأن خضرته نعمه من نعم الله ، خلافا للمزروعات التي لا تخضر إلا بالمطر :
أخضر من الله لا مطر ولاشي
اللون الأخضر ( هو اللون الواقع بين الأبيض والأسود، وهو إلى السواد أقرب ) والأخضري وإن كان هو اللون الذي يغلب وصفه على المرأة ، يمكن أن يوصف به الرجل أيضا :
والاخضري من العدين بكر
مشدته بيضاء ومشقره اخضر
وتتفن الأغنية ، بمقارنة ، الاخضري ، من حيث أنه (دله) ، قد تكون من الدلال ، أو خفيف الظل ، الذي تريح رؤيته العين ، وتسر القلب ، والاسودي تصفه بأنه سُم ( كناية عن نكد العشرة كتجربة فردية ) .
فاللون الأسود يستخدم في كثير من اللهجات اليمنية بأنه لون الخصب ، فتلك سحابة سوداء محملة بالغيث الوفير ، وأما استخدام اللون الأخضر في الموروث الشعبي ، فيستخدم للجود والعطاء كأن يقال فلان ذو يد خضراء ، (أي دائم العطاء)، وأما الابيضي ، فهو فوق الجميع يحكم ليس كلون فحسب ، بل جمالا يتقلد عرش الحكم :
الاخضري دله والاسودي سم
والابيضي فوق الجميع يحكم
( لا. شتعشق ) يعني إذا نويت ، أن تعشق الخضراء، فعليك توفية الثمن حتى لو كل مالك ، وتحذر الأغنية من عشق الحمراء لانه سيكون على زوال المرء . ولا أدري على أي اساس اتخذ هذا الحكم ، فهي ليست ظاهره منتشرة في أوساط المجتمع.
لا اشتعشق الخضراء وفي بمالك
لا تعشق الحمراء على زوالك
فهل تأثرت هذه الاغنية بقول يحيي عمر ( الاحمر كذاك خله ) :
اتبع هوى البيض جمله واعشق الاخضر
وسامر السمر والاحمر كذاك خله
للاخضري ، أكثر من لون حسب الدرجة ، فواحد من هذه الألوان يميل إلى السمرة، بسبب ارتوائه ، والثاني مقلح أغبر ، وهذا اللون لايطلق إلا على الجدب ، والارض اليباب ، وأيام الحرب، ( يوم اغبر . سنة غبراء):
الاخضري ما يستويش الاخضر
اخضر هلي واخضر مقلح اغبر
الفراق ، غالي الثمن ، قد يكلف حياة الانسان ، الأغنية هنا تسأل الحبيب عن ظهور البهق ( نوع من الامراض الجلدية ) وتؤكد له أن طعنة بحد السيف ، أهون من فراقه ، بسبب هذا المرض الذي قد يكون معديا :
حبيبي مو ذا البهق بساقك
طعنه بحد السيف ولا فراقك
النيل ، أحد أنواع الثياب ، الشفافة ، ويحتاج ، إلى طبقة من باز آخر تسمى البطانه ، والجمل الهائج ، توضع على لقفه ( فدامه ) للتقليل من هيجانه ..
لنت قميص النيل اني بطانه
لنت جمل هائج اني الفدامه
لم تذكر الأغنية ، تحديد هوية من هولاء الذين يُقَسمون الحب ، ومع ذلك تصرح بأن قسمها قليل ، وتدعو بالويل لمن ظلمها :
مقسمين الحب اين قسمي
قسمي قليل يا ويل من ظلمني
الخيبة ( الخياب ) كظاهرة اجتماعية ممقوته من المجتمع ، كما أسلفنا ، تطلب هذه الأغنية من أهلها أن يعيدوا له .. ( حقه ومحقوقه) من المال أو غيره ، وتضيف ، ( عود بحلقه ) لإسكاته :
ما شاش اني الخيبه ردوا له حقه
حقه ومحقوقه وعود بحلقه
وقد يستبدل الخيبة في أغنية أخرى بالشيبه ( الطاعن في السن ) الذي له المقدرة على بناء أكثر من دار ، ولكن الأغنية تفضل الشباب معلنة استعدادها بأن تسكن بحيد مجدور:
ما شاش اني الشيبه لو يعمر الدور
واشتي الشباب شسكن بحيد مجدور
الحَلَص ( العلفق )في بعض المناطق نوع النبات التي تنمو بفعل الأمطار ، وهي – عبارة عن أوراق خضراء سميكة، لنبات متسلق، تطبخ ثم تؤكل بمفردها أو بإضافة بعض المواد عليها للتخفيف من حموضتها ، كان الناس – وخاصة الفقراء – يكثرون من أكلها ، في الريف اليمني ، وبالتالي فإن الأغنية تؤكد استعدادها للأكل أوراق هذه النبته ، وإء عدمت الأوراق فإنها ستبحث عن الجذور :
على المليح شاكل حلص بلوقه
ولو عدم شحفر عن عروقه
المسافر من أجل المليح ، لا تهمه المسافة ، ولذا ، سوف يقطع مراحل كناية على البعد ، و ( خُصيا ) خصوصا إذا كان ( شباب جاهل ) في بداية شبابه ، ثمة اشارة هنا ، للزواج من خارج النطاق الجغرافي للقرية :
على المليح يسافروا مراحل
وخَصِيا لو هو شباب جاهل
وقد تطلب الأغنية من المليح التوقف ، لتقول له بأن حبها شمل حياته كلها ، من بعد أن كان جزاء أو نصفا منها
يا ذا المليح وقف قليل شقل لك
قد كنت حب نصك واليوم كلك
المليح ، من حقه أن يأخذ ما يريد من الحب ( يستاهل ) ، عندما يقل لمن يرغب الزواج منها بأنه لها وحدها ، ليكون لها شمسا وظلا :
يستاهل المليح لا قال انا لك
لا قال انا شمسك انا ظلالك
تقسم الأغنية ، بأنها لا تعاني من ضمأ أو من جوع ، ولكنه قليبها هو الموجوع :
والله القسم ما بي ضمأ ولا جوع
وا بي أنا الا القليب موجوع
التسليم بقضاء الله وقدره ، أحد العوامل المخففه لتوجع القلب الذي يقطر دما ، جراء النصيب العاثر ، فهذه المحبة كانت مقدرة من الباري ، ولن يفيد الندم ، وتستخدم هنا ( يانا ) للترحم أو التعاطف:
يا نا على قلبي يقطر قطر دم
محبتي من الباري لمو ع شندم
تباعد الأغنية بينها وبين العائب لها بقولها له روح ( اذهب بعيدا) بعيبك ، فرزقي على الباري وليس بحبك :
روح لك يا عائب تروح بعيبك
رزقي على الباري ما هوش بحبك
قد يأتي الباطل والمنكر من الأهل ، بالزواج القسري من هذا الخيبة أو ذاك الشيبه في اغنية أخرى، والأغرب من ذلك أن يطلبوا منها أن تسلو :
وباطله ومنكره من اهلي
اندو ليا الخيبه وقالوا اسلي
تظهر لغة العنف في بعض الأغاني ، كما أسلفنا، كرد فعل للخيانه والغش ، وهنا تدعو هذه الأغنية للموجه إليه بأن تصيبه قنبلة ، وأربع رصاص رشاش (آلي ) ، للزيادة في الانتقام ، إذ لو نجا من الأولى ، لن تخطئه الرصاص ، ( هذا المعنى الظاهري للأغنية ) :
ولعتني بالحب وانت غشاش
لك قنبله واربع رصاص رشاش
يظهر التسامح جليا هنا ، فحينما ، يرمي المحب ( الزوج ) زوجته بالرصاص ( سوء الطبع والنكد المعيشي ) ترميه بالفل ، وتطلب منه ، مكاشفتها ، إذا كان هناك ، أحدا من الناس ، وشا ، بها أو عَلٌَمه عليها :
ترمي رصاص ونا ارجمك بفلي
لو علموك الناس علي قول لي
النكد ، وعدم الاستقرار المعيشي ، داخل البيت ، يجعل من الحياة بها لا تطاق ، وكأنها علة وسما قاطعا، ولذا لا يفيد الحنين والتأوه في هكذا حال:
ياقلب حن مو شنفعك لحنيت
السم والعله بداخل البيت
قد يكون نصيب المرأة من الحياة ، كنصيب الوراثة من ميراث أبيها ، (برصاح) قطعة أرض غير صالحة للزراعة ، والتي كانت قديما تعطى للمرأة ، وقد إنقلب هذا الوضع حاليا، إذ أصبح ثمن (البرصاح ) يفوق ثمن قطعة الأرض الطينية الخصبة ..
هذا النصيب من الحياة الزوجية ، تشبهه المرأة ، بذاك البرصاح ، الغير صالح للزراعه في معظمه ، تسأل الله الذي جمع بينهما أن (يفسح) يفرق بينهما :
سهمي قليل وزاد اتى ببرصاح
واني اسألك اللي جمعت تفسح
الحياة المعيشية ، التي كانت في الريف ، حياة مشقة ، وعذاب ، من الصغر ، إذ تتحمل البنت ، متاعب كثيرة ، و في أحيان كثيره يكون الزواج هروبا ، من تعب بيت الأهل ، إلى بيت الزوج ، ولكنها تجد هناك المشقة والمتاعب أكثر و أكثر ، ولذا تنطق الأغنية بهذه المتاعب التي رافقتها ، منذ أن كانت تلعب مع أقرانها من البنات :
عذاب عذاب مكانني معذب
وعادني بين البنوت العب
ولكأن العذاب قسمتها، منذ كانت صغيرة ، مثلها مثل حبة ( بذرة) الشعير :
قسمي العذاب وعادني صغيره
و عادني سع حبة الشعيره
الفراق أحد السموم المعنوية ، التي تتجرعه الأغنية ، والغياب يحضر أرقا متواصلا ، وكأن النوم ينعدم من العين:
يا مسلمين اذا الفراق سُمي
من يوم سرح خلي عدمت نومي
الفوطه ، أزار شعبي خاص بالرجال ، أشتهرت به مناطق الحجرية ، في الستينيات والسبعينيات ، مرتبطا بالذين يعودون من عدن أو جيبوتي ، وحين كان الخل ( الزوج ) كما تقول الأغنية ، يعود إلى السفر مرة أخرى ، تبقى هذه الفوطة معلقة في علقة خاصة قبال المرأة ، لعدم وجود دواليب أو شنط لوضعها فيه ..
هذه الحالة المستمرة لرؤية الفوطة المعلقة ، تُبقي القلب مشجي ( موارب ) لا مفتوحا كليا ، ولا مغلقا تماما..
خلي سرح وفوطته معلق
قلبي عليه مشجي ولا تغلق
وقد أسبدلت الفوطه بالمقطب بعد انتشاره ، كملبوس شعبي ، في الكثير من المناطق وبالذات الحجرية:
خلي سرح ومقطبه معلق
قلبي عليه مشجي ولا تغلق
حين تترحم الأغنية للعاشق المفارق ، تصف دمعه بالسيول ، ونهدته بالبوراق ، ولا أرى علاقة ملازمة للنهدة ( كصوت ) بإيماض البارق ، فالنهده عبارة عن طاقة صوتية مكبوتة ، يمكن تشبيهها بالرعد عند انفجارها ، و( يحدث الانسجام النفسي ) المؤقت بعد اطلاقها من أعماق المعاناة النفسية:
يا رحمتى للعاشق المفارق
دمعه سيول ونهدته بوارق
حبس (نافع) في مدينة حجة ، كان مُغيِّبا للكثير من الثوار ، وتتمنى هذه الأغنية ، لو كانت الطيور تنافع لتأخذ لها مكتوب إلى حبس نافع:
يا ليت واذي الطيور تنافع
تشل لي مكتوب لحبس نافع
الدفاعي، تطلق على عساكر الإمام ، التي كان، يطلقها على القرى ، وبوصولها ، الذي يعيث فسادا بها ، نهبا وسلبا ، تصبح القبور جاهزة ، والأكفان منتظرة:
هذي السنه قد جا لنا دفاعي
القبر جاهز والكفن مراعي
الراديو الجهاز اللاسلكي الذي ،وصل الى القرية ، في عقد السبعينيات ، كانت أكثر محطاته متابعة بانتظام هي لندن ، وصوت العرب ، ولأن صوت هذا الراديو ( لندن ) كان عاليا، طلبت منه الأغنية أن يَقُل ( يُحَدث ) حبيبها ، يعود إليها قبل أن يأتي الموت:
يا راديو لندن يا عالي الصوت
قل للحبيب يرجع قبل
ما يجي الموت
وأما أحمد سعيد المعلق المشهور في إذاعة صوت العرب . فقد شملته الأغنية الريفية ، وللأسف لا تحضرني الآن تلك الأغنية .
يتبع ..