- كتب: محمد عبدالوهاب الشيباني
لا أدري لماذا حينما أشاهد صوراً قديمة لمدينة تعز، أو يمرُّ طيف ما بذاكرتي عن الوجوه والأمكنة والأحداث، يعود بي الحنين منهمراً إلى ذلك الوقت الجميل، الذي تسرَّب من أعمارنا مثل ماء بارد نقي في صيف قائض.
هذه الصُّور، التي وجدتها في صفحة صديقي المبدع فهد الظرافي، أعادتني إلى صباحات السوق المركزي الباكرة، حينما كانت تختلط فيها روائح النعناع الأخضر الذي تحمله، في قففهن، نساء صبر وثعبات، مع روائح قهوة البُن والشاي بالحليب، الذي يتصاعد من “كتالي” صالح ماوية و”دلال” الأصوع، ويختلط برائحة البحر التي تخرج من ثلاجات الصيادين المملؤة بأسماك البحر الأحمر ومضيق باب المندب، التي وصلت على سيارات دفع رباعي منذ الصباح الباكر إلى السوق؛ تختلط مع روائح الليمون المجلوب من مناطق المفاليس بالقرب من طور الباحة.
أصوات المقرِئين التقليديين (عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود خليل الحصري) المنبعثة من مسجلات بعض المحلات، وكانت تتواجد لهذا الغرض فقط، تتداخل مع أصوات المتسوِّقين والباعة المبكِّرين، غير أن أصوات مذيعي البي بي سي (ماجد سرحان، هدى الرشيد، سلوى جراح، رشيد رمضان، وغيرهم)، المنبعثة من الراديو العتيق القابع أمام والدي في دكان الحاج سعيد عمرو، هي التي لم تزلْ تغزل في الذاكرة تفاصيلها، التي بمقدوري لمسها ناعمة وطرِية.
الصبريات الشابات بثيابهن الريفية المميّزة أول من يتواجد في السوق في الصباح الباكر، ويحملن في قففهن وسلالهن الكثير من المنتجات الموسمية، التي ينتجها الجبل وقرى ثعبات وحسنات في سفحه الشمالي الشرقي، وكانت رائحة النعناع والريحان كثيراً ما تسبقهن، وكُن يقمن بتوزيع مجلوباتهن من الخضر الورقية على بائعي الخضر في البسطات والمفارش والحوانيت في المحيط، وعند العاشرة يعدْن للمِّ الغلّة من أصحاب المفارش، قبل أن يغادرن باتجاه الباب الكبير، حيث موقف سيارات الدّفع الرباعي لندكروزر القديمة (الصوالين)، حيث سيغادرن إلى الجبل، وقد حملن بقفافهن أيضاً حاجتهن من السوق، وكذا طلبات أهل القرى.
في هذا الوقت، ستفسح الشابات الصاعدات مجالاً لنازلات أُخريات من الجبل. هن أكبر قليلاً وأكثر خبرة بالسوق، ومنتجهن أكثر طلباً وأغلى قِيمة، وموعد تصريفه يبداً من قبل ظهر كل يوم في كل حال. إنه ‘القات’، الذي بحاجة إلى بائعات مدرَّبات، يعرفن كيف يلتقطن المشترين بكثير من الفوائد.
يتوزّعن في الأسواق المهمّة، مثل: المركزي، والباب الكبير، وباب موسى، وبعض الأسواق الثانوية في ‘التحرير’، لبيع ‘قات’ الجبل الذي كن يجئن به مغلفاً بأوراق الذُّرة اليابسة أو نبتة “العُثرب”، أو المناديل البلاستيكية الملوَّنة، ويبعنه بمسمّيات موسمه مثل: “المثاني، والمبرح، والشرو، والجدة”.
كان للحاج سعيد عمرو، في فترة من الفترات، بائعة ‘قات’ مُخصصة اسمها “شريفة”، تصل بمناديلها الخضراء والحمراء، الموضوعة بعناية بشِوَال صغير أنيق فوق رأسها، ولا يجاريها في مسابقة كلماتها السريعة والحاسمة غير أصوات المعدن اللامع الذي يغطّي ساعديها وصدرها وأذنيها.
الكثيرون كانوا لا يفرِّقون بينه وبين الذَّهب الحقيقي للسبْكة، التي أتقنت بها صناعة هذه “الغواشي والحلق”.
وحده الحاج كان يضحك كثيراً حينما يرى استغراب الناس من لبسها كل هذا الذّهب، وكان يقول هذا ذهب “فالصو”، أي يعني مزيَّف وعديم القِيمة.
في بعض العصاري اللاحقة، كنت أبقى لوقتٍ جوار الباب متأملاً استعدادهن لمغادرة المدينة، بعد أن أنهين بيع ‘قاتهن’ وخضرواتهن في الأسواق القريبة.
كانت السيارات الصوالين “لاند كروزر” العتيقة موديل 75، هي التي تقلّهن إلى قرى الجبل قبل تعبيد الطريق.
يكنَّ، في هذا الوقت، قد ملأن قفافهن وصحافهن المعدنية ببضائع مختلفة. في حين لا تتحرّك السيارات، في طابور واحد من ثلاث أو أربع سيارات، إلاَّ بعد أن تتفقّد النساء بعضهن البعض. بالتأكيد ستكون سيارات أخرى غير السيارات المغادرة قد أقلّت قبل ذلك بعضهن، وخصوصاً أولئك اللواتي يرتبط تواجدهن في المدينة بخضار وفواكه البُكور.
- عن موقع قناة بلقيس