- محمد فائد البكري
ما تزال علاقتنا بالوطن مُلتبسةً ومُكَبَّلةً بقيود العاطفة التي نمت مع التنشئة، مثقلةً بمقولاتٍ دينية وعُرفية، صنعت في مخيالنا عصبية المكان، وبنت علاقةً عصبويةً تكاد تكون شكلاً من أشكال الوثنية.
حين خاضت شعوبنا معركة التحرر الوطني ضد المحتل، نشأت علاقة عاطفية جامعة سَمَّيناها الوطنية، وقد قامت على أساس الدفاع عن الجغرافيا، وملكية الأرض وحدودها بحسب ما يقوله المخيال عن تلك الحدود، وتجاهلت أهمية الدفاع عمَا داخل الجغرافيا، فلم تعبأ بالمواطن، وتحريره من المعتقدات العصبوية والعادات والتقاليد البالية، والعلائق البدائية، التي تحول بينه وبين تفعيل تلك العلاقة موضوعيا.
ولم تنجح هذه العاطفة في أن تتحول إلى فعل موضوعي؛ لتعمل على إعادة بناء مفهوم الوطن على قاعدة المنفعة للمواطن. ومن ثَمَّ أصبح الوطن مجرد سياجٍ لمساحة ترابية، وصرنا بداخله أشبه ما نكون بكائنات نادرة في محمية طبيعية!
فنشأت بسبب ذلك صيغتان:صيغة الوطن الهوية وهنا تصبح العلاقة وجدانية تشبه علاقة الطفل برحم أمه؛ وكثيرا ما ينتج عن ذلك التماهي بين الذات والوطن، فيغدو الوطن كيان الذات وكينونتها، ويتوهم ألا معنى له في ذاته خارج الانتماء إلى وطن، وفي ذلك يقال أحيانا الوطن الأم.
وصيغة الوطن القانوني الذي نحمل جنسيته وأوراقه الثبوتية في سياق منظومة العلاقات الدولية، وهنا يصبح الوطن الوظيفي، وتغدو العلاقة تعريفية وظيفية لا أقل ولا أكثر ويغدو الدفاع عن الوطن دفاعا عن هذه العلاقة التي من خلالها يتحقق للمواطن حقه في الحياة.
أنتجت العلاقة الأولى قابلية الارتهان، وأتاحت لنشوء خطاب وصايةٍ سرعان ما استخدمته السلطات التي قادت معركة التحرر للاستحواذ والتملَك والاستبداد، ونصَّبت نفسها ممثلةً للشعب، ووصيةً عليه.
وفي ضوء ذلك صك المزايدون بالوطن مقولة الولاء الوطني، وفرضوا على الشعوب نوعاً من الأدلجة سَمَّوه حب الوطن؛ لتصبح علاقة المواطن بوطنه علاقة تبعية وإذعان ومحو لذات المواطن.
ولأنَّ الوطن في واقعنا العربي ليس أكثر من حدود جغرافية، فكل من يختطف السلطة يغدو حاكما بأمره تحت لافتة الدفاع عن الوطن، ويُسوّق نفسه على أنه حارس تراب الوطن وسادن التاريخ الوطني والساهر بأمر الله على شؤون الوطن، والحريص على تمثيل الوطن، ويختزل في شخصه رمزية الوطن. وأي اعتراضٍ عليه يغدو مساساً بالثوابت الوطنية وتعدياً على رمزية الوطن وانتقاصاً من الوطنية، ومن سيادة الوطن، وكل نقد أو معارضة لسلطته الطاغية يصفها بخيانةً الوطن.
وزيادة على هذا أن أُدخل في الأمر التلبيس باسم الدين، ونشط خطاب دعاية ينادي بتقديس الوطن، وجُعل حب الوطن من الإيمان، أو من حب الله. وعنه صار الموت في سبيل الوطن استشهادا. ولم يتأخر المخيال الميثولوجي عن تغذية تلك العلاقة الوثنية بأوهام وتبريرات وتفسيرات تجعل منها بدهية ومُسَلَّمَة وجودية.!
ومن تبعات هذه العلاقة المَرَضِية بالوطن، أن تم إهدار مفهوم الوطن، وأدلجة مصطلح الوطنية، وتحويل الوطن إلى شعارات زاعقة، ونرجسية شعبية، ومُعطىً شوفيني يوهم المنتسب إليه بكيانية زائفة، وصار المواطن المهدورة مواطنته، يتوهم أن انتسابه إلى هذا الوطن محل فخر واعتزاز، وتوهم أن هذا الانتساب إلى الوطن يمنحه امتيازا على غيره، ويشحنه بشعورٍ غامض بالتفوُّق ما يلبث أن يتضخم إلى حد العمى والهوس ويدفعه إلى الزهو الأعمى والاستلاب والانسحاق.
ويهيئ له مكانةً عليا على حساب غيره من المولودين في جغرافيا أخرى، إلى حد أن هذه العلاقة العصبوية تفقده التبصّر، وتدفعه للمغالاة بامتياز المكان الذي ولد فيه على غيره من الأمكنة؛ فيشرع في إيجاد أدلةٍ على هذا الحكم النفسي، وينبش في تاريخ المكان حيناً ، وفي جغرافيا المكان حيناً آخر، وينشئ خطاباً وهمياً منتفخ الأوداج، يبرر به دعوى تفوّق وطنه على غيره من أوطان الدنيا!
وهكذا تصبح مصر أم الدنيا ويصبح موقعها الجغرافي عبقرية المكان. وحضارتها بعمق سبعة آلاف سنة. وهذا التوصيف الدعائي يقفز على الواقع المعيش، وعلى حقيقة أننا نعيش خارج العصر، وخارج الوعي بمعنى الحياة، وليس هروبنا إلى التاريخ، وأمجاده الغابرة إلا نوعا من الاغتراب.
وقد تمرست السلطات القمعية على تدمير وعي المجتمعات من خلال سلب فردانية الفرد وتكبيل حريته وسلبه استقلاليته، وفرض التبعية عليه وتحويله إلى رقمٍ في قطيع، يطيع الحاكم الذي يجسد الوطن.
وبالنتيجة أصبحت الأوطان سجوناً كبيرة لشعوب مستلبة ومدمرة ومغلولة وضعيفة، تعيش عُصاب التاريخ، بغريزة القطيع، وتهدر قيمة المكان والكائن تحت شعار” نموت نموت ويحيا الوطن”. ووجدنا بعد زمنٍ من إنجاز الاستقلال أن دولنا ما تزال مقيدةً وتابعةً للمحتل بصيغة أخرى، فالمناضل الذي ادّعى أنه حرر الأوطان، بعد أن صار الحاكم الشمولي، ولم يكن أقل سوأ من الاحتلال، ولم يعترف أنه لم يستطع أن يحرر الشعوب؛ لم يستطع أن يحرر الإنسان من الفقر والجهل والمرض، وعوامل الارتهان والتبعية للخارج، ولم يستطع أن ينجز مشروع دولة تمنح الوطن معنىً وظيفياً بالنسبة للمواطنين.
ولذلك نلجأ للهجرة من الوطن، بحثاً عن لقمة العيش التي لم تتوفر لنا في مسقط الرأس والبأس، وحين ننجح في الحصول على فرصةٍ للعيش في مكان بديل نفشل في الاندماج في مواطن اللجوء، ونعيش التمزق والغربة، لأن الوطن الذي في الذاكرة يحجبنا عن إعادة تعريف أنفسنا في سياق الحياة.
وبالنتيجة نصبح هوامش على حياة المجتمعات التي نغترب فيها غربة الوجه واليد واللسان- كما قال المتنبي- وغربة الجسد وغربة الروح، وكل ذلك بسبب التنشئة المَرَضية على عصبية المكان!
وهكذا يتم توثين الوطن وتصبح العلاقة به أكثر من واجبٍ وحق، ويتحول الوطن إلى عصبيةٍ عمياء، وأكثر من عبودية، وبدلاً من أن يكون الوطن فضاءً للحلم بالحياة. ومجالا للحياة الكريمة يصير سياجاً منيعا أما الانفتاح على الآخر، وحاجزا أعمى بين الذات والآخر، يثبِّت قطيعةً نفسية وتمييزاً عنصريا، وينتج ذهنية مهيأة للخصومةً والصراع والعداء.
وهذا التمرس على التعصب، بموازاة الوله بالوطن، يعمل على انكفاء الذات على نفسها، وتمديد المشاعر المناطقية والنزعات الجهوية في داخل الوطن، وتنشأ أوطانٌ صغرى، وهوياتٌ بدائية، تمايز بين الصَعدي والعدني والتعزي والحضرمي والحديدي والمهري… إلخ.
بمعنى أن عصبية المكان تبني منطقاً خاصاً يميل إلى الانغلاق والقطيعة، وعلى منوال ما تفعله هذه العصبية باتجاه الخارج، يصبح لها ارتداد وامتداد في الداخل؛ فالتعزي لا يبرأ من الفخر بتعزيته في أي منطقة أخرى داخل اليمن، والعدني لا يبرأ من الفخر بعدنيته، والصنعاني لا يبرأ من الفخر بصنعانيته، والحاشدي لا يشفى من الفخر بحاشديته، والبكيلي لا ينجو من الفخر ببكيليته، والعولقي لا يصحو من الزهو بعولقيته. وهكذا يصبح لكل منهم وطنه النفسي الخاص!
ولا أحد منهم يتأمل في هذه العلاقة، ويبحث فيما تحقق من تنمية وما تتيحه له من فرص حياة. ولا أحد يسأل نفسه عن جدوى هذه العلاقة التي تبتلع كينونته وإنسانيته لصالح فائض الميتافيزيقا.
وربما يمضي العمر كله ولم يخطر ببال المواطن المهدور أن يتساءل عن جدوى ذلك، فالعلاقة بالمكان الذي ولد فيه أدخلته في حالة من الاستلاب إلى حد الانسحاق.
من ثَمَّ يغدو الاستهلاك العاطفي للوطن استغراقا في الفصام وعائقاً أمام التنمية، وتقبّل الآخر، والاعتراف بحق الاختلاف وبناء الشراكة الوطنية. والشراكة الدولية.
وعليه، لابد من إعادة مَفهمة علاقتنا بالمكان عموماً، وإعادة صياغة العلاقة بالوطن على أساسٍ وظيفي. وتحرير مفهوم الوطن من التعصب والامتلاك. ولاسيما أننا في عصر يسعى لأن يكون الإنسان فيه مواطناً عالمياً!
ماذا يبقى من معنى الوطن حين لا يجد فيه المواطن معنى لحياته؟
ماذا يبقى من قيمة الوطن حين يفتقر فيه الإنسان لمقومات الحياة الكريمة؟!