- كتب: ضياف البَرَّاق
ما أمتعَ سهراتي الرمضانية المنفردة، هذه الأيام، في ظلال أغنيات أمل كعدل، أغنياتها التي تُطْلِقُ روحيَ من إسار الهمِّ والغمِّ، وتأخذها إلى فضاءات جديدة مفعمة بالبهجة حتى الثمالة! تأخذني نجمةُ عَدَن إلى أطياف جمالية جديدة، وسكراتٍ وجدانية عميقة، لم يعرفها قلبي من قبل. هذه المرأة العظيمة، لمْ تصنعْ، في كل مشوارها النبيل، وحتى الآن، سوى هذا الحب المتدفق، وهذا الجمال الكثيف الذي يُبْهجُ الأرواحَ ويشفيها من البؤس. هذا وحده يكفيها فخرًا، ويضعها في قائمة صفوة الفن اليمني.
مثلًا، في أغنيتها “النسيم المسافر” تسافر بك إلى شلّالات الجمال، تغمسك في نبيذ الحياة المُعتَّق، تجعلك تشاهد روحك الغائبة في نسمات الهواء النقي، في أوراق الشجر، في المرايا الراقصة وراء الواقع، في قطرات المطر، في التماعات الدهشة وخطوات الصمت. وعندما أشعر بفقدان الشغف، أو باليأس من هذه البلاد، أفتح أغنيتها “بلادي أحييك فلتسلمي”، أبدأ سماعها بخشوعٍ عميقٍ، فأذوب مع كلماتها الناضجة، وأذوب من روعة هذا الصوت الأصيل الساحِر، وهكذا، تنتعش روحي الذابلة، وتغمرني حالةُ الأمل، فأعود جديدًا، سعيدَ النفس. وهذه هي مهمة الفن، كما أراها، وكما أؤمن بها.
النجوم كثيرة في سمائنا الفنية، لكن هذه النجمة استثنائية جدًا، لا تأفل، لا تسقط في التكلُّف والابتذال، لا تلهث وراء التفاهات، لا تسمح لمرض الغرور أن يُغيِّرَ معدنها الحقيقي، لا تلتفت إلى أوساخ الانتماءات الضيّقة، لا تيأس من الحياة، لا تهزمها تقلبات الدنيا، لا تتوقف عن فعل المحبة وتقديم الجمال للجميع دون شرط ولا قيد. إنها تعيش في مستوى التضحية الحقيقية، تتقن معاني العطاء، وتدور حتى في حياتها اليومية في فلك الخير والجمال.
تُغنّي من عروقها الدافئة، من دموعها المَرِحَة، من أنفاسها النقية من الشوائب التي ينفر منها الذوق، من عيونها التي ينشلُّ منها الحنانُ الصادق كأنه المطر الطيّب في غزارة هطوله، من جميع جوارحها تُعَانِقُ كُلَّ ترابِ الوطن، تغسله بماء عذوبتها، فتجعله أخضرَ، رغم القحط، أخضرَ، رغم المستحيل. صدقها الفني، نقاؤها في ترقيص الكلمات، حركاتها الجذّابة المتناسقة عندما تقف على المنصات، وابتساماتها العفوية الحُرّة المثيرة للدهشة والفرح.
ها هو ذا قلبي يكتب عن واحدة من فنانات الوطن العظيمات، ويا ليت تكون كتابتي هذه كبيرة، لأنها عن فنانة كبيرة بحق. ثُمَّ إنَّ هذه الفنانة تستحق أن نشكرها، ونُكرِّمها، على الأقل بأجمل الكلمات وأعمق التحايا وأنقى المشاعر. إنني أعترف أن لغتي لم تسعفني بالكلمات المناسبة والكافية، لمعانقة روح أمل كعدل، على نحوٍ يليق، ولكنني، عوضًا عن ذلك، أعانقها بدموع روحي المنتشية، بأصوات انكساراتي الداخلية، بانفعالاتي الصوفيّة المأخوذة بغنائها المميَّز، المختلطة بصوتها الذي يُلخِّص لنا حكاية الفن في أروع صورة.
نَعمْ ولا شكَّ هذه الفنانة فلتة من فلتات الزمن الجميل، سماء زرقاء أمطرتنا بأروع الأغنيات، وردة أبدية تداعب الأوتار فتطربنا وتسعدنا بتجلياتها العَطِرة، كأنها هي الطبيعة الخضراء الخلّابة تعتذر لنا، تعانقنا فتُنسِينا بشاعاتِ هذا الموت. تقول أمل، بلهجتها العدنية التي لا نشك في جمالها، بأنها صارت فنانة جادّة لأنها تحمّلت الشقاء من صغرها، وقد كانت المدرسة المحطة الأولى لانطلاق موهبتها الفنية، ثُمَّ، مع مرور الأيام، ومع التعلُّم والممارسة، كبرت أملُ، تفتَّحت موهبتها، تسامت، تقدّمت فنيًا، اِقتربت كثيرًا من أرواحنا، أشرقت علينا إشراقاتٍ إبداعيةٍ لا تنتهي، سحرتنا، غمرتنا بروائعها الكثيرة، حتى صار اسمُها اللامعُ منقوشًا اليومَ في ذاكرة هذا الوطن.
حقًا، أشعر بالاعتزاز والسعادة إذ أكتب عن فنّانة عظيمة، مُشْبَعة حتى الأعماق بثقافة مستنيرة، ذات شخصية قويّة ناجحة، لها قيمة مميزة في الوسط الفني، لها جمهور كبير يحترمها، خدمت الجمالَ والحياةَ والوطنَ، مدة طويلة من الزمن، وأضافت للفنِّ عامّةً إضافاتٍ رائعة. نرجو لها الخير والعافية، وننتظر منها المزيد من التألُّق والجمال.