- ضياف البراق
عندي صديق يمتنع عن قراءة الفلسفة؛ حتى لا يتزندق ويغادر دائرة الدين. إنه يحب حالة التسليم والهدوء ويخشى حالة القلق والتشتّت. إنه يهرب من هذا الوحش الكبير “الفلسفة” هروبَ العاطشِ من المطر! امتناعك عن الفهم يأخذك ويرميك في ظلمات الجهل، لأنّ الفلسفة تنتج الفهم الصحيح، هي التي تصقله فيك، لتجعلك، في آخر الأمر، ذا رؤية منطقية وسليمة. فالفلسفة تجعلك إنسانًا متنوِّرًا، أو متصوفًا حُرًا، وبعدئذٍ، لا يعود يرعبك الظلام ولا يمزّقك القلق، والسيطرة على حريتك واستقلالية فكرك تصبح مستحيلة.
ولديّ صديقة عزيزة تقول إنها لا تستطيع أن تتنفّس بشكل عميق إلّا إذا أطلّت على العالم من نافذة الفلسفة. هي مأخوذة بجمال وعُمْق الفلسفة، تجِدُ في الفلسفة معنىً لوجودِها وقيمةً لحياتِها، ترفض رؤية الأشياء بسطحية، فتقول إن الحياة تافهة بدون فلسفة، وإن عذوبة الفلسفة هي التي تنير وتُجمِّل روحَ الإنسان. صديقتي هذه مستنيرة بالفعل، تبحث دائمًا عن المعنى المفقود والمعنى الجديد، تذهب إلى أعماق المشكلات والقضايا، تستكشف المجهول بكثرة التساؤل والتفلسُف، كما لو أنها تبحث بالسؤال الفلسفي وفيه، عن وجهها الحقيقي الغائب، ولا تنسى أن تلقي نظراتها العميقة على نفسها، هي لا تنفصل عن تراث الماضي ولا تبقى في أسْرهِ، ومُنفعِلة بحركة التاريخ والتطور لأنها مغرمة بالتقدم والاكتشاف والاتّساع. لكنها لم تفصح لي بعدُ عن موقفها من الدين.
وأعرف طفلًا تقريبًا في العاشرة من العمر، عندما ألتقيه يرميني بأسئلة مدهشة بعضها من بحر الفلسفة. يدهشني ببراءة أحاديثه ذات النكهة الطيّبة والصيغة المتمردة، إنه يكاشفني باستفهاماته العفوية وجهًا لوجه، يبحث عن الله عندي، فأبتسم له وأمنحه قسطًا من الأمان. أسئلةُ الأطفالِ لا تخلو من نزعة فلسفية، أو بعضها وليس كلها. والأطفال ينظرون إلى الأشياء باندهاش شاعري أو فلسفي، والدهشة هي النقطة المحورية التي تشتبك فيها الفلسفة بالشعر. ففي الشعر فلسفةٌ ما، كما في الفلسفة شيءٌ من الشعر. فالذي ينظر ولا يندهش، أو يتأمل ولا يحس بالدهشة، فهذا لا يصلح للتفلسف ولا سيفهم مقولات الفلسفة.
الانتقال من ضفة الدين إلى ضفة الفلسفة، أو العكس، صعبٌ. فالتفلسُف غير التدين، والتوفيق بين هذين النقيضين ليس بالأمر السهل. في التفلسف لا بد من المنطق والشك وفي التدين لا بد من التسليم. فبدون الشك يستحيل التفلسُف، والشك حالة مثيرة للقلق. وبدون التدين يستحيل استقرار النفس. الدين لا يحتمل تمرد الفلسفة والفلسفة لا تحتمل أوامر الدين وضيق أفقه. ولا تخلو نفْسٌ بحكم الفطرة من نزعة دينية، أو من إحساس ديني. لكن الصراع بين الفلسفة والدين، أو بين الشك واليقين، لا يبقى سَلْبيًا إلى آخره. إن الصراع بين الأضداد يؤدي، في نهاية المطاف، إلى انبعاث النور في الظلام ويبدِّده. وهذا قانون طبيعي من قوانين التطور على هذه الحياة.
والفلسفة، حسب هادي العلوي، هي القرين الطبيعي للإلحاد. ويقول أيضًا إنّ “الإلحاد رديف الفلسفة فمن ألحد عن تفلسف لا يفارق إلحاده لأن الفلسفة إذا دخلت عقل إنسان فصلته عن الدين. ولم يحدث لذلك أن تنقّل فيلسوف بين الإيمان والإلحاد فهذا شأن الأدباء والفنانين”. والعلوي هنا لا يقصد الإساءة للفلسفة ولا يدعو للإلحاد ضد الدين، وإنما يريد أن يقول الحق كما يراه من زاويته. وأنا شخصيًا أجدني أتفق معه في ذلك، مع قليل من الشك.
“إن قليلًا من الفلسفة يقرب الإنسان من الإلحاد، أما التعمق في الفلسفة فيرده إلى الدين”. الفيلسوف الذي قال هذا، هل كان فعلًا يؤمن به؟ مجرد تساؤل.
الفلسفة، في حقيقتها، بحر بلا حدود، مفتوحٌ للعوم والغرق معًا، وهي تعني في الأصل “محبة الحكمة”. على أن الفلسفة ليست الحكمة فحسب وإنما هي أكثر من ذلك بكثير. فإذا كانت المعرفة تجلب المعلومات فإنّ الحكمة تُسبِّب التحوّل، هذا قول أوشو وهو فيلسوف وحكيم هندي من مشاهير القرن العشرين. وهو يعني أن صاحب الحكمة أهم من صاحب المعلومات الكثيرة التي اكتسبها عن طريق الحفظ.
لكنّ أحدًا قد يقول إن الدين قيد والفلسفة هي المطرقة التي تحطم القيود وتزعزع الثوابت بالأسئلة الجريئة والتأمُّلات الدقيقة والغوص عميقًا في ورائيّة الأشياء والبحث عن جذور مشكلات الحياة. ذلك صحيحٌ، لكن الهدف منه نبيل. غاية الفلسفة إيجاد الحقيقة وتبديد ظلمات النفس والعقل والضمير. والفلسفة، من هذا الاتجاه، لا تتعارض مع الدين، لأن الدين بالأساس هدفه الخير.
ويقول أوشو إن الفلسفة، عند سقراط، تبدأ بالشك بهدف الوصول إلى اليقين. لكنها عند الشرقيين، تبدأ بوعي المعاناة وليس بالشك. والفلسفة تولد من معاناة الإنسان وقلقه الوجودي. أمّا سلامة موسى، فيعتبر أن الفلسفة هي الدين. دينه هو الفلسفة. وبين الفلسفة والدين اختلاطٌ يشبه الاندغام، بحسب قوله، والسبب هو أن “قضية الدين هي نفسها قضية الفلسفة، وهي: كيف نفكر التفكير السليم ونعيش العيشة الطيبة”. وللدين عنده (ويعني الفلسفة!) قيمة مهمة هي أنه يؤدي إلى استقرار النفس ويحول دون التزعزع الذي قد ينتهي بالتحطم. وسلامة موسى يخلط بين الاثنين، الدين والفلسفة، ولذلك لم أفهم موقفه.
وبعد، ألا ينطوي حتى التصوف الفلسفي على إحساسٍ ديني في عمقه؟ أليس في دعوة الفلسفة إلى الخير ما يشبه الضمير الديني؟ أتساءلُ وأبحثُ.