- ضياف البَرَّاق
المطر يهطل على سَعْوان. مساء جميل، وأطفال حارتنا يلعبون الآن في الشوارع والأزقّة. الأضواء قليلة في الخارج. ابتهاجاتُ الأطفالِ كتابةٌ مُختلِفة ضد الحرب. سعوان من أجمل مناطق صنعاء، هي مدينة بسيطة لكنها لذيذة، مناسِبةٌ لي، أغلب البسطاء يعيشون هنا، أعرفهم ويعرفونني. في المطر تلتقي الأشياء التي لا تلتقي في الموت. وعندما أكتب عن جمال الحياة في سعوان، أو عن جمال المطر، أو عن جمال المرأة، أو عن أي شيء جميل، فإنني بالتأكيد أكتب ضد الحرب. كل كتابة إبداعيّة جميلة هي بالضرورة ضد الحرب.
في الحرب، إمّا تنتصر الكتابة أو تندثر. ليس أمامها من خيار ثالث. ما كتبتُهُ حتى الآن ضد الحرب، شعرًا ونثرًا، يكفي لإسعاد وسادة حزينة، يكفي لانتشال طفلة تصرخ تحت الأنقاض، يكفي لقطع الطريق أمام رصاصة قنّاص مصوّبة بدقّة نحو قلبي، يكفي لفضح الأيدي الخبيثة التي تعبث بحياتنا في هذه البلاد، ويكفي أيضًا لاكتشاف طريق الحرية. أنزل إلى الشارع كلَّ يومٍ، أخالطُ الناس فيها، أُصغي إلى ما يدور في نفوسهم، أكتشِفُ جراحاتهم العميقة، ثم أكتبها بشغفٍ وصدق، بحنانٍ وحرية. أكتب من وسط الشوارع، من على مقاعد الباصات، أمشي وأنا أكتب، أكتب وأنا وأمشي. لذلك، وكما أعتقد، تخلو كتاباتي من الأكاذيب والزخارف والتعقيدات. الكتابة تموت في الأبراج العاجية. لم أكتب شيئًا لم أعرفه أو لم أعِشْهُ. وكتبتُ لنفسي وضدها. أنا أمزِّقُ نفسي عندما أكتب. كلماتي هي الدموع، ودموعي وأفكاري هي الناس، الفقراء خصوصًا. هذا هو قدري، كفنان، ككاتب جاد، ربما: أن أتعذّب إلى الأبد، أكثر من سيزيف، من أجل الانتصار للحياة.
أكتب من قبل الحرب بسنوات قليلة. أعني هذه الحرب الطويلة التي لم يساعدني ضدها سوى الكتابة. في الكتابة لقيتُ نفسي، في الحرب فقدتها. في فترات الحروب، نخسر كثيرًا، وفي أوقات الكتابة، نستعيد قليلًا مما خسرناه. والكتابة الحقيقية هي التي تستعيد كرامةَ الإنسانِ المسحوق، أولًا وأساسًا، ولا تستعيد ظلاميّة الأزمنة الغابرة، بل تنسف بقاياها. هي التي تخلق إنسانًا جديدًا، ولو من تحت الركام، وزمنًا جديدًا، وحيواتٍ جديدة. هي الصوت الصادق لمن لا صوتَ لهم، والأمل العميق لمن فقدوا الأمل، واللون الفريد لواقع صار بلا لون، والمعنى الجديد لحياة فقدت معناها. والمطلوب من الكتابة، ليس تغيير كل شيء، فهذا مستحيل، ولكنها مطالَبةٌ بوضع حدٍّ ما لموت الحياة، بكشف الحقائق والوقوف مع الحق، بتضوئة المناطق المظلمة داخل الإنسان. مهمة الكتابة، في زمن الحرب خصوصًا، استعادة صوت المنطق والعقل، وإحياء الضمائر التي تموت، وتوجيه روح المجتمع الكليّة نحو الطريق السليم، المضاد للعنف بكل أشكاله، المضاد لجميع الممارسات العبثية، التي تجر الحياة إلى مصير مسدود، بل إلى انسدادات شتى. وتنتصر الكتابة بمقدار اقترابها من خيوط السلام، لا من خطوط العنف، فكلما اقتربت من ينابيع الحياة، انتصرت على الموت، وكلما كانت نزيهة صادقة، ازدادت قوّةً، وحققتْ تقدُّمًا. وهذه، طبعًا، مسؤولية نضالية كبيرة، ملقاة، دائمًا، على قلب الكتابة، وعاتقها. كلما كبر ضمير الكتابة، علا صوتها، وكبر مجدها، واستطاعت التغيير. وبفقدان الكتابة هذا الضميرَ الحيَّ، تنكمش إلى داخلها، تتهرّأ قيمتها، تندثر تحت الركام، أو تغدو كمثل بالونة سابحة في الفراغ المُظلِم.
وكما نلاحظ من العنوان، تتقدم الكلمة على الحرب، الكتابة على الموت. تعمّدتُ ذلك، طبعًا، فبالكلمة خلقَ اللهُ هذا الكونَ العظيمَ، وصاغ قوانينه الدقيقة بقلمه الخاص، رسمها بريشة الفنان الكامل، وصقلها لنا بالعزف العميق على أوتار الجمال. لأن الخلق، أساسًا، هو أصل الفن، هو الفن بعينه. والكتابة هي فن قبل كل شيء. فكلُّ خالقٍ فنّانٌ. والكاتب الحق، هو فنّان عظيم. والطريق إلى الفن، حسب الشاعر العراقي المعروف، سعدي يوسف، أطول من حياة. وحده الفن يسبق الحرب، ويهزم كل قذارات الحروب.
نَعمْ، دخلتُ عالمَ الكتابةِ، مُبكِّرًا، من الأبواب التي لا تعرفني، ورحتُ أمارسها كما أعيش حياتي، بكل شغف، مدفوعًا بالأسباب التي لا أعرفها. كانتِ البدايةُ غريبةً حقًا. وما زالت مسيرتي مع الكتابة غريبة إلى الآن. الكتابة معاناة داخلية غير منقطعة، مع اللغة، أولاً، ثم هي معاناة عميقة جادّة مع التاريخ والحياة وكل الأشياء. على كلٍّ، لقد مضيتُ قُدُمًا في الكتابة، ولن أتوقف أبدًا، مع أنه يزداد يقيني يومًا بعد يوم، ونَصًا بعد نَصٍّ، بأن الكتابة الحقيقية، وبالذات الإبداعية، هي أصعب تجربة يخوضها الكاتب. لا أكذب، إنه الفن، يا أصدقائي، ليس عملًا سهلًا على الإطلاق. والمهم في كل فن، هو الإتقان. والإتقان فن وحده. تلك هي الحقيقة.