عن تجربة الفنان البحريني عباس يوسف
- بقلم: حكيم العاقل*
في مرسم (رباب) المشغل الذي يزاول فيه عباس عمله، بدأ حديثي معه عن مشاريعه الفنية، وبصمت قام بإخراج ملفات محفوظة بعناية ومؤرخة بتواريخ متفاوتة، ملفات تحمل عناوين مكتوبة ومرسومة بصيغ مختلفة، منها ما هو (اسكتشات) جاهزة للتنفيذ ومنها كتابات عن كيفية التنفيذ والتقنية وملاحظات استذكارية.
سألته لم كل هذا الكم الهائل من التخطيطات والكتابات والتعليقات في حواشي معظم الرسوم؟ أجابني بانفعال الفنان هذه يا صديقي مشاريعي المؤجلة، فبدأت أقلّبها وأنظر إليها بشكل مختلف..تأملت فيها كثيرا، وعدت لسؤاله، بماذا ستبدأ؟
لم أجد جوابا حتى وقت قريب عندما فأجاني أثناء حضوري معرض البحرين للفنون التشكيلية 2014 بثلاثة أعمال كبيرة الحجم، أدركت هنا أن نقاشنا لم يضع سدى، فها هي النتائج تظهر باحترافية مدهشة وغير متوقعة.
عباس يوسف استطاع خلال عقود من الزمن ومن خلال البحث والتجريب أن يصوغ تجربة في المحترف التشكيلي البحريني، اتسمت بالذكاء والتطور في إدخال الحرف العربي ضمن متن اللوحة مستخدما النصوص، وحداثة التقنيات، والأهم من هذا هو الاتساق المعرفي لما يقوم به، أعماله ليست مجرد خطوط متنوعة وهو يجيدها بامتياز- أقصد قواعد الخط العربي – وهذا الامتياز لم يجعله حبيس الخط، بل وظفه بغنائية شكليّة ولونيّة أستطيع القول عنها شعرية بصرية.
يعتمل في لوحات الفنان عباس يوسف (الفكر/ الرؤية / التنفيذ) من خلال التكوينات الإيقاعية للمبهم أو المجرد. في صيغ تجاربه السابقه حضور قوي للتنويعات التجريبية المتداخلة التي يحضر فيها الاتساق اللوني، وهنا تكمن الاحترافية العالية في تناول مثل هذا الموضوع، فالحروفية العربية بشكل عام فن(الكيلوجرافي) ظل يناور بين (الديكورية / التصميم) خاصة عند وضوح العبارة.
ما نجده عند عباس يوسف توليفة أو صياغة مفاجئة للمفردة التي لا تقرأ أو تشرح، فخبرته في تطويع الكلمة تكوينيا وشكليا ولونيا أعطاها طاقة تعبيرية تجاوزت المألوف والسائد بحذر الوقوع في المتكرر أو(المانورزم) الذي يتعامل مع اللغة أو الحرف كرمز دلالي مبدع تنقلك إلى أجواء التأمل بهرمونية تتصف بالتآلف والتضاد معا.
• مشاريع مؤجلة
عايش الفنان عباس يوسف تجربة النص المكتوب بحالاته المختلفة مع أمين صالح وقاسم حداد ومحمود درويش وغيرهم من الشعراء العرب، واختزل رؤيته بنصوص بصرية تتقارب معهم، لكنه أحسن الفعل والانتظار الذي يندرج ضمن مفهوم (الاستدراك) أو التخيل الوقتي أو الانبهار الآني.
لقد كان للفكر نصيب الأسد في هذه اللوحات الضخمة والكبيرة حجما والمنفذة طباعيا بتقنية الشاشة الحريرية (السليسكرين) مع تدخل تأكيدي من حيث (الشطب/الإضافة) وإعادة البناء.
خاض الفنان عباس يوسف تجربة (الإحاطة) والتحدي بخلق فضاءات (مقاسية) -أقصد أحجام اللوحات- متحديا صالات العرض ومتحديا هذه الصياغة (الحجمية) للمساحة، فهذه المقاسات لا يقبل عليها إلاّ فنان خبر توزيع الأشكال، وهندسة الألوان، والتكوين معا.
ساعدت ثقافة الفنان عباس يوسف المبكرة في إدراك ماهية الحياة فظل متوازنا لا (يلهث) وإنما (يجرب) وأقصد بقولي إنه أمتلك التوازن المعرفي والخبرة بتواضع دون ضجيج، وهذا ما سنراه ونحسه في هذا المعرض الذي يمزج بين (الذاكرة/الفكر) بين(التجربة/التقنية) فكل فنان يحتاج إلى مفردات، وخبرة تنقله إلى تحدي خوض التجربة الإبداعية باقتدار.
في هذه التجربة نجد لدى الفنان عباس يوسف أثر واضح للنص أو (المكتوب) أو المأثور النصي الذي يحوله ويختزله بصياغة (تكوين/ لون) إلى لوحة يعتمل فيها الحرف أو(حرية) الشكل مثلها مثل رسم الشخوص بتعبيريتها المختلفة.
فالتعبيرية البصرية أو الشعرية البصرية اتسمت بمخاطبة (انتقائية) للمفردة لتأكيد نوعية التلقي المحاط بالغموض.
فالغموض في تشكيل الكلمات (رصها/ نثرها/ وتوازنها) جعل من هذه التداخلات المتناقضة أسلوبا. (استطاع) عباس أن يقدم تجربة تمثلت في امتلاك هذه القواعد، وهدمها، وتقديمها بصيغة لونية مغايرة للسائد.
• خارج السياق
بعيدا عن الكتابة بوصفها مدلول الكاتب، أقول الفنان عباس يوسف حوّل ثقافته إلى سلوك إنساني اتسق مع محيطه ومثّل نفسه في سياقات متعددة كفنان وكإنسان محب بصدق دون انفصام، وهذه المواصافات تدلنا على هذا الانسجام بين كل ما ينتجه أو يعمله في التواضع والاحترام للآخر وحبه الواضح لمحيطه العائلي ولصداقاته المنتشرة في أصقاع الأرض وتواصله مع العالم كفنان بحريني، فأحب العالم البحرين من خلال عباس الذي يشكل علامة فارقة في التشكيل البحريني بما نسجة خلال العقود الماضية من علاقات تستحق التقدير والاحترام.
تمر سنوات إضافية ويتجدد اللّقاء المباشر في البحرين عام 2018 مع عباس برغم تواصلنا الدائم الذي لم ينقطع ، ولكن في لقائنا الأخير شاهدت تجربة جديدة وبحث متسق (خليط من كل شىء) وهذا الخليط خلاصة عدة تجارب بل استطيع أن أقول اختزال لتجربة جديدة شكلا وموضوعا من خلال تكوينات لونية و(كولاج) وحروف مبعثرة ومجمعة في سطوح حية تتعايش بانسجام وتتخذ أشكالا ابتكارية موظفة بخبرة واتقان احترافي .
الدائرة رمز دائم للكمال هذة خلاصة فلسفة العمارة فالقباب المستديرة بكمال مطلق يكون في منتصفها(مركزها) اسم الله ومنها تتفرغ بقية الأشكال وهذه التكوينات المحيطة تقودنا إلى المركز الذي يشكل نقطة ارتكاز الكون والبصر، فالدائرة خط لا ينتهي فالتلاشي منعدم بل تجدد الخط المستمر في الدّوران وهذا ما جسده الصوفيون برقصاتهم التي تهدف إلى تحرير الجسد من ربقة الحياة.
لجأ الفنان عباس يوسف إلى هذه التكوينات الدائرية ووضفها بإشباع الأشكال البسيطة والمتداخلة لونا وخطا برغم استعمال (الكولاج) بحذر شديد واتساق شكلي احتوتة قوة التكوين الدائري، فالمساحات تتكتل في نقطة وتتشتت في زوايا مختلفة وتدور بدناميكية أعطت هذ التوازن كما في الرقص الصوفي الذي لا نرى منه سوى الحركة وتلاشى بقية الأشياء .
بهذة الرؤية رأيت وشاهدت هذه التكوينات أو التجربة لعباس يوسف حيث لم يدع أى مشروع مؤجل لديه إلاّ ووظفه في دوائره المحكمة.
بنفس الروح تعامل مع لوحاتة بأشكال مختلفة، وهذا ما يميز تجربة عباس يوسف فهو دائم البحث ويعمل على اشتغالات متعددة، لا يهدأ ولا يستكين فكل فترة لديه مشروع يعمل عليه بالالتزام وحب كبير ويظل يدور حول الطاولة الكبيرة في مرسم ( رباب) إلى أن يبدأ مشروعا جديدا أو فكرة لإنهاء مشروع قديم ، يجدد عباس نفسه يوميا وهذا ميزة الاستمرار ووجود مشاريع مؤجلة هذا طبيعي لفنان مثل عباس .
فالديمومة والعمل المستمر يخلق لدى الفنان هذا التجدد النوعي وكم لا ينتهي من المشاريع التي تتداخل أحيانا لتعطي دفقة إبداعية وطاقة لحب المغامرة والتجريب الذي لا ينتهي .
- فنان تشكيلي وناقد