- يرويها : سليمان السقاف
في صباحٍ مشرقٍ ينتمي لتلكَ الفترةَ من منتصفِ السبعينيات انطلقت فولكس فاجن بيضاء تنهب الأرض الترابية نهباً، وهي تشق طريقها (ولو) بصعوبة في الريف الذماري نحو منطقة الينابيع الحارة المعروفة بــ “حَمَّام عَلِي”، كان الطريق حديث الشق وغير معبد لكن تلك الماركة الألمانية التي لا تحتاج محركاتها للتبريد بالماء خلافاً لغيرها من المركبات الأخرى ظلت تزأر دون تراخٍ، وكأنها في اختبار إثبات جدارة أمام الفوهلر أدولف هتلر شخصياً باعتبار أنه من أمر بإنتاجها في زمن الحرب العالمية الثانية بتلك المواصفات الخاصة لمساعدته في اجتياح الأراضي السوفيتية (حينها)، وبشكل عام فالصناعة الألمانية عادةً ما تتسم بالقوة ..
اقتربت الفولكس فاجن من “حَمَّام عَلِي” وبدأت الأرض تزداد اخضراراً مع أواخر موسم الزراعة وبدء الحصاد، ولم يفسد المشهد في عيني سائقها سوى سيطرة نبتة القات على أغلب المساحات الزراعية، فتمنى لو تم استبدالها بأشجار الفاكهة، وعند هذا الحد انقطعت أفكاره فجأة، فقد برزت في طريقه إمرأة تسوق أمامها حماراً عليه حمولة معتبرة من الأعلاف، وكانت الطريق ضيقة بحيث يضطر المارة إلى الوقوف في جانب الطريق لإتاحة المجال عند مرور سيارة، وبمجرد أن انتبهت المرأة إلى صوت الفولكس فاجن خلفها ذهبت للقسوة بحق الحمار كي تحثه على الإسراع أكثر حتى تصل به إلى مكان أوسع، غير أن السائق أطفأ محرك سيارته، وترجل، ثم طلب من المرأة التوقف، وبدأ يسألها:
لين تروح تيه الطريق؟ فأجابته : حَمَّام عَلِي
فأردف متسائلاً: وذية القرية منين يمشوا لها؟
كان شاباً في الثلاثين ونيف، يرتدي إبتسامة مشرقة إضافة إلى بنطال وقميص كأغلب سكان المدن، وكأي ريفية بسيطة لم تكن لتتوانى قط عن مساعدة غريب مثله، لكنها بعد عدة أسئلة إضافية أخرى منه استغربت مدى إلمامه ودرايته بالمنطقة كما لو أنه من أهلها.
فسألته باستنكار: ليش بتسألني وهوذا أنت داري بكل شيء ؟
رد عليها بوجه ضاحك : “مابلا يا والدة شفتش تضربي الحمار فعرفت انش تستعجليه من سب تفسحي للسيارة تمشي فحبيت أأخرش لمن يمشي الحمار للطريق الفساح”.
عاد الشاب ليعتلي مقود سيارته التي لم يكن عليها غيره، ثم انطلق نحو “حَمَّام عَلِي “، بينما ظلت المرأة ترقبه وهي تشاهد انعكاس الضوء على اللوحة الفسفورية ذات السبعات الثلاثة حتى اختفت السيارة عن ناظريها، ثم مضت إلى قريتها وهي لا تزال مستغرقة بالتفكير، ومستغربة من غرابة ما حدث، وحين وصلت صادفت الاهالي يتناقلون خبر وجود الرئيس الحمدي في منطقتهم، وشاهدت الجميع يتوافدون الى مكان تواجده، فلحقت بهم مصطحبة معها أولادها ( العائلة تنتمي إلى آل الجشوش ) ، وعند وصولها للمكان المحدد اكتشفت أن الرئيس إبراهيم الحمدي لم يكن غير الشاب الشهم صاحب السيارة، فدهشت أكثر مما كان لمعرفة هوية الرجل الحقيقية، وباستغراب وذهول شديدين حكت الواقعة لمن حولها بأنها كانت للتو تتحدث معه (مع الرئيس) وتخبرهم عن رأفته بدابتها، كانت تقسم لهم وهي نفسها لا تكاد بعد تصدق ما تقوله .
تقع “حَمَّام عَلِي” عند أسفل منحدرات “ضَوْرَان آنِس”، 35 كيلومتر شمال غرب مدينة “ذَمَار”، لم يتجاوز سكانها الألفين نسمة في آخر تعداد سكاني (2004م)، وهي اليوم مركز مديرية المنارة التي تتبع محافظة ذمار، وقبل ذلك الحين لم يكن بامكان المركبات أو هذا النوع بالذات من الوصول إليها لولا “التعاونيات” التي ابتكرها ابراهيم الحمدي ونفذها بنفسه (ترأسها عبدالله الحلالي)، وبفضلهما تم شق أكثر من طريق للمنطقة أحداهن تربطها بمنطقة رصابة وأخرى بمدينة معبر وهما على خط (صنعاء- تعز) والثالثة تصلها من الحيمتين على خط (صنعاء-الحديدة)، وبفضل شبكة الطرق هذه غدت “حمام علي” منتجعاً سياحياً بجمالها الطبيعي، ومزاراً طبياً لمن أراد الاستشفاء بمياهها الكبريتية، وفي ذلك اليوم كانت الأرض والناس يشهدا بأن ثورة سبتمبر بلغت أزهى مراحلها تحت ظل حركة 13 يونيو المباركة، بدليل أن المركبة التي لم تبلغ شوارع موسكو حسب رغبة الفوهلر وهو من حاز أكبر رتبة في تاريخ العسكرية وصلت إلى ريف ذمار ومنطقة الينابيع الكبريتية بــ ” حمام علي ” في عصر رئيس يمني لا يحمل أكثر من رتبة مقدم ..
كان الرئيس الحمدي يحب زيارة هذه المنطقة فإلى جانب جمالها ومياهها الطبية فقد أمضى طفولته وصباه في هذه الأنحاء، كما كان ثمة قطعة أرض فيها لأخيه المقدم عبدالله الحمدي عن والدهما أنشأ عليها بستاناً ومنزلاً، وإن كان الأهالي لازلوا يعتقدون أنهما ملك إبراهيم الذي صارت زياراته بعدها للمنطقة شبه معتادة تقريباً، وكان هو أول من زرع اليوسفي ( أجود انواع البرتقال) بمنطقة ” حمام علي ” في بستان أخيه عبدالله قبل أن يلحق به جملة المزارعين هناك، حتى صار يوسفي “حمام علي” بعدها اسماً شهيراً في الأسواق، أما الرئيس الحمدي فقد انتقل باكراً إلى جوار ربه مخلفاً صنيعاً لا ينسى، ومنزلاً آل للاندثار إلا أنه لازال يذكر أهالي “حمام علي ” بزمن جميل وذكريات لا تندثر مع من أوصل إليهم الطريق والبرتقال يوماً، فيجرفهم الحنين أكثر إليه، إلى عصر رئيس كان يعتبر المواطن اخيه وحبيبه، وبلغت رأفته ورقته أن يحول دون تألم مخلوق في وجوده، ولو كانت دابة عند أطراف ” ضوران آنس ” ..
المصدر : الأستاذ شعلان الأبرط – مستشار محافظ محافظة ذمار.
مراجعة تاريخية: فضيلة القاضي (الوالد)محمد بن محمد الحمدي حفظه الله الأخ الأكبر للقائدين الشهيدين إبراهيم وعبدالله الحمدي رحمة الله عليهما ..