- عبدالملك الحاج
في احدى الليالي كان المغبش على موعد مع اعضاء من التنظيم المقاوم، وبعد تناوله لوجبة العشاء خرج من بيته وصعد باتجاه (الفغرة) حاملا معه كوز الماء، ومشدته التي يوجد بداخلها قات السمرة، عند وصوله الى نجد (قُعُيش) جلس في المكان الذي اعتاد ان يسمر فيه كلما صعد الى هناك، يا لروعة هذا الموقع انه يطل على العديد من من النواحي والمناطق المتناثرة في الاراضي باتجاه خدير وسامع وصبر وماوية وجبال الضالع الشاهقة.
اتكى المغبش على حجر في تلك (البرحة) بأعلى النجد ووضع شربة الماء امامه فأخذ يملأ فمه ببعض من اوراق القات وفي لحظة تأمل راودته الهواجس والشجون فاخذ يدندن بصوت خافت ولحن شجي ويغني…
صوت المذيع بكر يدق بابي
مثل الصباح أعاد لي شبابي
يعلن على الدنيا على الروابي
شرع السماء وحكمنا النيابي
اكمل بعض من مقاطع الاغنية الثورية ثم لزم الصمت ليواصل السمرة بعد ذلك وهو شارد البال انه يحاول ان يستوعب حقيقة ما يدور، يتعمق بالتفكير كي يستعيد الاحداث المخزونه في ذاكرة الذهن خلال عشر سنوات مضت من عمر الجمهورية، فيستعرض شريط احداث صنعاء مذ ان وصل اليها برفقة المساعد اول عبد الله فرحان.
فتبرز امامه بوضوح لقطات للوقائع التي حدثت طوال تلك الفترة من مؤتمرات ومؤامرات استهدفت القضاء على الجمهورية مرورا بانقلاب نوفمبر ومعارك السبعين وحتى احداث اغسطس، وما تمت فيها من تصفيات للقيادات الشابة المنتصرة في ملحمة الحصار بزنازن القلعة وشوارع صنعاء.
فتنهد بتلك النهدة (المتفئدده) ذات النفس الطويل، متذكراََ الشهيد الملازم (فيروز) مساعد كبير المعلمين بقوات الصاعقة ومسئول الامداد في معارك الحصار، انه احد ابناء عمومته المغابشة الذين سكنوا ذبحان، احد ابطال الحصار الذين تم تصفيتهم في سجن القلعة، وتذكر كذلك الملازم (العفريت) بطل من ابطال السبعين واحد افراد قوات المظلات، احد ابناء عمومته ايضا.
اثناء استعراض المغبش لشريط الاحداث الاليمة ارتسمت على شفتيه ابتسامه عريضة لم تخلو من وجود تلك الملامح الحزينة، انه يستعرض مشهدا مؤثرا للملازم فيروز اثناء عودته من زيارته الاخيرة الى ذراع الابل برفقة خمسة من افراد الصاعقة وهم يرتدون الزي العسكري المموه الخاص بالصعقاويين، ويتذكر بالتحديد لحظة مغادرة الملازم فيروز بعد ان صافحهم مودعا، توجه نحو السياره العسكرية التي تنتظره في احدى زوايا الوادي وقبل ان يصعد اليها توقف ثم استدار ليودع المغبش وكأنه كان يشعر بانه الوداع الاخير اخذ يردد هذه الابيات:
انا ان سقطتُ على الطريق
مسربلاََ بك يا جراحي
هذه طريقي في الكفاح
فيـا اخـي احمــل سلاحــي
ثم يرفع يده الى الاعلى ليلوح بها وهو يصعد الى السيارة التي انطلقت بهم مسرعة نحو طريق الراهدة لتتجه متوجهه الى صنعاء.
يدور شريط الذاكرة في رأس المغبش سريعا، وبشكل مفاجئ تبرز امامه صورة (علي عبده ناشر) قتيل الجبارنة، تتغير ملامح وجهه تعبيرا عن مدى تأثره بتصفية ذلك الشاب العبسي على يد قائد القطاع في تلك الليلة المرعبة والحزينة، فقد اثرت به حادثة القتل تلك الى درجة انها غيرت مجرى تفكيره تماما،
بعد جريمة مقتل الشاب العبسي تولدت لديه قناعة تامة بحتمية النضال ضد هذه القوى المشيخية العسكرية التي ظاهرها جمهوري وباطنها كهنوتي مستبد.
يتوقف شريط الاحداث عن العرض ويعود للمغبش ذهنه الشارد بعد وصول (البرهومي) المسئول القيادي في التنظيم المقاوم بالمنطقة وبرفقته مجموعة من شباب التنظيم الذين وصلوا بنفس الموعد المتفق عليه الى نجد قُعيش.
البرهومي:
ايش الذي كان يشغل بالك يا مغبش؟!.
المغبش:
افكر باللي يحصل، الجمهورين جزعوهم فطيس، والمشايخ الملكيين بقدرة قادر رجعوا جمهوريين وذلحين يديولوا بالجمهورية مثلما يشتوا، وكل اللي حصل يحصل من تحت رأس بنت سعود .
البرهومي:
هم من حبكوها للمشايخ ودعموهم لما وصلوهم الى قمة هرم الجمهورية والان اتفرعنوا يشتوا السلطة تبقي محصورة بهم.
صفوا قادة الجيش والضباط وزجوا بالكثير منهم بالسجون وبعضهم ضيعوهم، والبقية الذين كنا بوحدات الصاعقة والمظلات تمكنا من الافلات منهم وسافرنا مناطقنا وبعدها الى عدن وانضمينا للتنظيمات المسلحة لمواصلت النضال.
المغبش:
انتم قدكم بنادقية وتقاتلوهم، لكن العبسي واصحابه مافيش معاهم غير اقلامهم والكتب مو ذنبهم لما يقتلوهم ويحبسوهم ويعذبوهم ويطاردوهم.
برهم:
السلطة تخافهم، لذا اصبح الشباب المتعلمين الذين يحملون فكر وطني تنويري ويطالبون بالمساواة والعدالة هدف لاجهزة السلطة القمعية وعرضة للقتل والسجن والتعذيب والمطاردة، فالنظام يسعى الى قتل الفكر الذي يحملونه في عقولهم قبل أجسادهم.